السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

حكايات مدينة تحت القصف( 2-2 )ثقوب سوداء فى ثوب حلب

حكايات مدينة تحت القصف( 2-2 )ثقوب سوداء فى ثوب حلب
حكايات مدينة تحت القصف( 2-2 )ثقوب سوداء فى ثوب حلب




سوريا -  إبراهيم جاد

قبل أن تهبط طائرة الخطوط الجوية السورية فى مطار دمشق فوجئنا بإظلام تام للطائرة؛ لم تكن الاجابة حاضرة فى هذا التوقيت ازاء هذا التصرف؛ هل كان هناك؟ لكن الاجابة كانت أسرع مما اتصور «اننا نخشى ان تصبح الطائرة هدفا سهلا للجماعات المسلحة؛ وهى مضاءة وسط سماء سوداء». كان ذلك مؤشرا واضحا على خطورة الرحلة والزيارة
يبدو مطار دمشق خاويا الا من حركة محدودة لمواطنين تدثروا بأغطية هربا من الانخفاض المستمر فى درجات الحرارة؛ ليس هناك صخب ولا ضجيج ولا حتى سماع صوت المذيع الداخلى ليعلن عن قدوم رحلات جديدة. المطار يبدو مهجورا الا من هؤلاء الذين قرروا ان يلتحفوا بالاغطية الكثيرة؛ استوقفنى حجم العيون التى تراقب كل الوجوه وتتفحصها؛ وتقترب كى تسمع اللهجة واللغة؛ هل من اهل الشام ام ان الملامح عربية او اجنبية؛ كشف دقيق بعيونهم؛ كل نفس مرصود؛ كل حركة مراقبة؛ هل اصبحت مدينة دمشق مدينة من المخبرين بفعل الحرب الدائرة منذ سنوات؟ وان هذه مهمة البعض منهم كى يحافظ على ما تبقى من العاصمة الصامدة امام هذه الحرب؟
لسنا الا فى مهمة عمل وها هى الاوراق» هكذا أخبرت الموظف المسئول عن الأمن. يبادرنى بأنه لم يصله أى أوراق بعد من حكومته بشأن مهمة العمل او الزيارة؛ كانت وزارة الاعلام السورية قد تقاعست عن متابعة خطاب السفارة السورية بالقاهرة بموعد الوصول او انهاء اجراءات السفر؛ ولولا اتصال بالسفارة المصرية والقائم بالاعمال الدكتور محمد ثروت سليم؛ ووصول مسئول العلاقات العامة بالسفارة؛ لما خرجت من مطار دمشق؛ كان الامر فى غاية الصعوبة

القصف لا يتوقف
منذ الوصول لحلب وسماع اصوات القصف لا تتوقف على الاطلاق؛ فى النهار تقل بشكل تدريجى؛ لكنها فى المساء تتصاعد بشكل متقطع؛ حتى تكاد تخترق وتقترب من محل اقامتنا؛ يصاحب القصف اصوات اطلاق النيران؛ يبلغنا المرافق ان اقرب منطقة تبعدنا عن القصف هى منطقة الزهراء 3 كيلومترات فقط؛ هل يمكن الذهاب هناك؟ يبلغنى ربما فى النهار حيث يقل الضرب؛ لكن ليلا سيكون صعبا.
تروى لى مسئولة فى وزارة الاعلام السورية؛ انه ومع بداية تحرير حلب تم القاء القبض على قناصة فرنسية؛ لا تفرق بين المدنيين والعسكريين؛ حتى انها قنصت أطفالاً صغاراً؛ وحينما سئلت قالت «أمارس هوايتى فى القنص»؛ ربما ينتقل هذا الشعور بشكل تدريجى للاجيال الصغيرة داخل سوريا ومنها حلب؛ بعض الاطفال اعتاد رؤية الجثث والدماء؛ الامر الذى بات لا يشكل اى مفاجآت فى عقلية الطفل الحلبى؛ فقد اصبح القتل ورؤية الدماء غريزة يومية؛ اعتادها اهل سوريا فى اماكن النزاع والحرب؛ ليس هناك سلام؛ هناك فقط دماء وخراب؛ اختفت ابتسامة الاطفال مع اول طلقات رصاص؛ ومع اول مشهد لتوديع الشهداء؛ ومع اول صراخ فى وجه السماء «كفى. لا نريد دمارا»؛ ومع اول اياد تشكى وترتفع طلبا للرحمة وتخفيف الحزن.

أطفال بـ500 ليرة
قبل تحرير حلب بأيام؛ وامام فقر مدقع تعانى منه اسر فى المدينة؛ استغل أصحاب المحلات؛ حاجة الاسر للمال؛ لتشغيل الاطفال بأدنى مقابل؛ تحكى والدة هيثم «ابنى يعمل لمدة 12 ساعة يوميا يخرج فى الثامنة صباحا ويعود فى الثامة مساءً؛ لمدة خمسة أيام فى الاسبوع مقابل 500 ليرة فقط أى ما يعادل دولار فى الاسبوع؛ بعد تحرير المدينة طالبنا من اصحاب المحلات ان يرفعوا من قيمة المقابل؛ لكنهم رفضوا؛ بعض الاسر وخصوصا المتمركزين فى مراكز الايواء يعتمدون على هؤلاء الاطفال كمصدر للدخل؛ رغم انهم يعيشون فى مكان غير انسانى تنقصه المياه والكهرباء؛ اشبه بطابق كبير مقسم لمجموعة كبيرة من الاسر؛ لا يفصل بينهم الا حاجز كبير من البلاستيك؛ وتحاط كل اسرة مكانها بأغطية وبطاطين على الحائط وعلى الارض؛ بعض من المياه يتسلل للارض لتبتلعه الاغطية التى يلتحف بها الاطفال.
فى واحدة من هذه المراكز كانت هناك السيدة ختام حاج ام لخمسة من الابناء من اب مصرى؛ يعيش معها طفلتان؛ الاولى ستلتحق بالصف الاول الابتدائى؛ والثانية فى الصف الرابع الابتدائى؛ اما بقية اولادها يكبرهم عبد الحميد؛ فقد انتقلوا للعيش فى القاهرة مع اعمامهم؛ بعد ان استشهد ابوهم مع بداية الحرب فى سوريا؛ تبكى ختام «انا عايزة ولادى كلهم يتجمعوا فى حضنى؛ مش قادرة اعيش من غير ولادى؛ السفير المصرى وفرلى كل المساعدات للسفر للقاهرة لاولادى؛ لكننى اريد العيش فى حلب؛ لن اترك حلب». تنخرط ختام فى بكاء مرير وهى تحتضن ابنتيها.

تدمير الجامع الأموى
اثناء الحرب فى حلب؛ لم يجد المسلحون الارهابيون الا تحويل الجامع الاموى حصنا لهم امام هجمات الجيش السورى؛ وتحول الجامع الشهير والتحفة المعمارية إلى ما يشبه التحصينات الحربية؛ الاجوال متناثرة فى صحن الجامع وبالقرب من المنبر الذى تم تخريبه وتحول لتراب؛ المسجد اقرب لكهف مظلم طويل وعميق؛ تتعثر فى بقايا ارجيلة استخدمها المسلحون للتخفيف عليهم من وطأة الحرب؛ فى منتصف المسجد؛ تحصينات ضخمة خلف الاعمدة الضخمة المليئة بالثقوب بفعل تبادل الرصاص؛ حولوا جزءاً من المسجد لما يشبه سرداب طويل.
بقايا الزجاج المحطم؛ والسجاد المغطى باكوام من الاتربة؛ كان شاهدا على عنف المعركة التى دارت؛ لا يخيل لعاقل ان يتحصن مسلحون ببيت من بيوت الله؛ ظل عبر قرونا مسجدا للعبادة؛ يخطب الامام من على منبره يدعو الناس للهداية؛ ويؤذن المؤذن «الله اكبر.. الله اكبر»؛ هم ايضا كانوا يهتفون الله اكبر؛ حينما تراق دماء الابرياء اطفالاً ونساء ورجالاً. وحينما يسقطون منبرا او يسرقون اثارا وينهبون معالم الجامع ويهربونه للخارج؛ تكون هذه عقيدتهم.
بالقرب من التحصينات؛ يوجد قبر النبى زكريا عليه السلام؛ ناله أيضا تخريب ليس بالقليل؛ كأن عقيدتهم ليست عقيدتنا؛ كأن وحدهم هم المؤمنون والباقى إما كافر او مرتد؛ كيف يتحول هذا الجامع بطابعه الاثرى والحضارى والدينى إلى تحصينات عسكرية؟
لا تتوقف آثار الخراب والدمار فور الخروج من الجامع الاموى؛ معالم كثيرة اثرية وحضارية اتى عليها هؤلاء الارهابيون؛ فقد حاولوا اقتحام قلعة حلب؛ وامام صمود الجيش تسللوا لجامع السلطانية وحفروا انفاقا ثم لمبنى كارلتون ومبنى محافظة حلب؛ لكنهم لم ينجحوا فى اقتحام القلعة؛ ففجروا كل المبانى والاثار المحيطة بالقلعة؛ ثم غادروا المكان بعد ان انهوا عليه تماما؛ فبقت القلعة على جانب سليمة صامدة. وعلى الجانب الاخر صور كثيرة ومرعبة من خراب كبير.

التنظيمات المسلحة تحتل المدارس
فى هنانو تبدو الصورة اكثر خرابا؛ ربما لانها كانت اكبر معقل للتجمع الارهابى؛ حيث خرج منه كثير من المسلحين الارهابيين فى 2012؛ ونتج عنها نزوح الاهالى من هنانو إلى مناطق مختلفة من حلب؛ بعض هذه التنظيمات حول مدارس التعليم الابتدائى إلى ثكنة عسكرية خاصة بهم؛ لم يتبق من المدرسة الا معالمها الخارجية فقط؛ ساحة للعب كرة القدم؛ وكرة السلة؛ والاف من الكتب المدرسية التى استخدمها المسلحون للتدفئة؛ تمتلئ مخازن المدرسة بمواد كيميائية سامة استخدموها فى الهجوم على المدنيين والجيش؛ وبعض من ملابسهم وعليها اثار دماء كتب عليها «الفوج الاول.. النصر او الشهادة».
تبدو هنانو لها وضعية خاصة؛ فلا حياة على الاطلاق هناك؛ ليس هناك جنس بشرى يمشى فى الشارع؛ فقط مبان محطمة وبيوت تم تدميرها؛ اسفل هذه البيوت اطنان من مواد غذائية ومعلبات خاصة بهذه التنظيمات؛ تكفى جيوشا صغيرة لفترات طويلة.

تهريب مصانع حلب لتركيا
الكارثة الحقيقية فى اقتصاد حلب؛ كانت فى تفكيك معظم مصانع المنطقة الصناعية وتهريبها لتركيا؛ وشرائها بأثمان قليلة جدا؛ نجح الاتراك بالاتفاق مع المسلحين فى تهريبها لانقرة؛ يحكى هانى وهو صديق لبعض من اصحاب المصانع انهم كانوا يصورون المعدات وهى يتم تفكيكها ويرسلون هذه الصور لصاحب المصنع؛ بعضهم لم يكن يتحمل الصدمة منهم أصدقاء أصيبوا بذبحة صدرية وآخرون ماتوا؛ كيف يتحمل هذا المشهد وهو يرى عمره ودمه وكفاحه هو واسرته يضيع ويسرق امام عينيه ولا يتحرك؛ يقول هانى وهو يشير للمنطقة الصناعية هذه ليست مصانع تفتح بيوت اهل حلب وسوريا؛ هذه قلعة صناعية ضخمة كبرى تمد منتجاتها لكل العالم العربى.

هذا من فضل ربى
وتشبه صدمة صاحب مصنع حلب؛ بقصة محمود سراج وهو يمتلك اسطولا من الاتوبيسات والسيارات للنقل الداخلى؛ اكتشف استيلاء بعض هذه التنظيمات الارهابية على اكثر من 11 اتوبيسا وتسع سيارات؛ المصيبة الاكبر بحسب رواية ابنته نوارة انهم حذفوا اسم «سراج» من على السيارات وكتبوا بدلا منها «هذا من فضل ربى».
ولا تتوقف قصص الخراب والدمار والسرقة عند حدود هذه التنظيمات؛ فهناك «الشبيحة» وهو تنظيم اقرب للبلطجية يرتدون بزات عسكرية لكنهم ليسوا جنودا فى الجيش السورى؛ رغم انهم يشاركون فى محاربة التنظيمات المسلحة والارهابية؛ لكن طريقة تصرفهم لا توحى بالشهامة؛ يتنقلون طيلة الوقت فى حلب بسيارة ربع نقل؛ ومن فوقها مدفع رشاش.
بعض النازحين من حلب ومنهم اسرة مصرية؛ حين قررت العودة لمنزلها؛ استعانت بمسئول كى تحصل على «عفشها» وسيارتها؛ فخاطبته انها تريد الحصول على ما تركته؛ فقال لها وما الذى يمنعك؛ قالت «الشبيحة»؛ لكن بعد تفاوض استطاعت الحصول على جزء من عفشها؛ وتبقت منضدة فقال لها احد هؤلاء وهو يضع يده «هذه تخصنا وايضا السيارة؛ يكفى ما حصلت عليه من عفشك». ربما لا تكون الدولة السورية الآن فى عزها بعد سنوات الحرب؛ لكن هؤلاء الشبيحة سيكونون «شوكة» فى حلق النظام حين يتم تحرير سوريا كاملة؛ وربما سيكون التخلص منهم فى بالغ الصعوبة.

حوائط حلب والشعارات
كل حوائط وجدران حلب مغطاة بشعارات للتنظيمات الارهابية «التحق بجيش فتح» وشعار تنظيم داعش؛ وكتائب ابو عمارة؛ وجيش عمر؛ وغيرها من الشعارات التى تمجد فى التنظيمات الارهابية وترفع من شأنهم كونهم شهداء؛ وان من يحاربونهم هم مجموعة الجبناء؛ بعد تحرير حلب قام الجيش السورى بطمس كثير من هذه الشعارات؛ باعتبارها جزءاً مما مضى من الحرب.
بعد تحرير حلب بايام؛ عثرنا على جثة لاحد المسلحين التابعين للتنظيمات الارهابية؛ مغطى بسجادة؛ عليها اثار دماء ويظهر تأثير برودة الجو على اصابعه؛ يقترب سورى من الجثة ليقول «الله لا يرحمه».
على بعد كيلومتر او يزيد من هنانو؛ تنشط فرقة روسية للكشف عن المفرقعات؛ حيث تتوزع منذ الصباح لنزع فتيل قنبلة او ابطال معدات شديدة الانفجار تركها المسلحون الارهابيون قبل ان يغادروا حلب؛ لا يزال بعض هذه الالغام مزروعا تحت انقاض ومنازل حلب وفى الانفاق التى حفروها.

مستشفى ابن الرازى
إن كانت هناك ملحمة حقيقية ناجحة فى حلب؛ فانها من نصيب مستشفى الرازى؛ ذلك المستشفى الذى عمل فى ظروف صعبة. الدكتور محمد ابو بكر بطيخ مدير المستشفى وهو خريج كلية طب جامعة الازهر يقول «ان المستشفى استقبلت مئات الحالات الصعبة قبل وبعد تحرير حلب؛ معظم الاصابات فى الصدر والبطن؛ واصابات مباشرة على الرأس والبطن؛ ثلثهم من الاطفال و20% من الشباب والباقى من النساء؛ بعد تحرير حلب زادت نسب الاصابات واصبحنا نستقبل مئات الاصابات يوميا؛ وادينا جميع الخدمات الطبية للمصابين؛ لكننا نعانى من نقص فى المعدات وعدم وجود صيانة لها».
يراهن أهل حلب على أنهم قادرون على اعادة اعمار المدينة فى اقل من عامين؛ وان الدمار سيصبح عمارا؛ لكن حلب تحتاج لاعادة ترميم النفوس؛ أعيدوا بناء الانسان؛ ارفعوا اياديكم للسماء واطلبوا ان تتوقف الحرب والدماء؛ نريد حلب. نريد السلام. ربما نقف الآن جميعا كى نغنى لحلب كما غنت ماجدة الرومى لبيروت «قومى من تحت الردم كزهرة لوز فى نيسان
قومى من حزنك قومى
ان الثورة تولد من رحم الاحزان
قومى اكراما للغابات قومى اكراما للانسان».