الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

دساتير التكفير - الحلقة 1 - كيف سرق «الأمير الضرير» سماء.. و«الأرض» أيضاً؟

دساتير التكفير - الحلقة 1 - كيف سرق «الأمير الضرير» سماء.. و«الأرض» أيضاً؟
دساتير التكفير - الحلقة 1 - كيف سرق «الأمير الضرير» سماء.. و«الأرض» أيضاً؟




تحليل يكتبه - هاني عبد الله

لأسباب مختلفة (تتعلق بـ«البناء المعرفي» لتيار الإسلام السياسى)، فإن أغلب الروافد «المغذية» لمعتقدات التيار، تقف فى موضع «الخصم» من مرتكزات «الدولة الوطنية» (أى دولة) بمفهومها المعاصر؛ إذ تتراجع تلك «المرتكزات» (عند أبناء تيار «الإسلام السياسى») فى مقابل إعلاء فكرة «دولة الخلافة»، وحتمية استعادتها.. ومن ثمَّ.. ينطلق جُل أبناء التيار - غالبًا - فى فهمهم لنموذج «الدولة الحديثة» ( الجغرافية، المُتعارف عليها) من أنها صنيعة «القوى الاستعمارية»، التى أسقطت «دولة الخلافة» فى عشرينيات القرن الماضي.. من دون الالتفات لعددٍ من الخصوصيات التاريخية، والحضارية، التى تزخر بها العديد من بلدان «الشرق الأوسط».. فالدولة المصرية (على سبيل المثال)، امتلكت – من الناحية التاريخية – حدودًا «مستقرة»، ومعروفة، حتى قبل تأسيس «دولة الخلافة» نفسها بآلاف السنين (باستثناء حقب تاريخية، معدودة).
وإجمالاً.. يؤسس «التيار»، هنا، توجهاته؛ اعتمادًا على رافدين «رئيسيين»: الأول؛ هو «المُنتج الفقهى» (الشرعي)، والثاني؛ هو «توظيف» هذا المُنتج (سياسيًّا، وتنظيميًّا)، فى إطار التخديم على مفهوم استعادة «دولة الخلافة» (المندثرة).. وفى مقابل هذا التأسيس؛ تبدو - فى كثير من الأحيان - الساحة «النقدية»، المتصدية لتفنيد «الدعاوى»، التى يؤسس عليها تيار «الإسلام السياسى» منطلقاته الفكرية، وكأنها تسير فى اتجاهين، لا يلتقيان إلا نادرًا: الأول؛ يتعلق بتفنيد مرتكزات «المنتج الفقهى» للتيار (كتوجه دينى).. وهو دورٌ، كثيرًا ما كانت تتم محاصرة المتصدين له، باتهامات (جاهزة)، مثل أنهم: «فقهاء السلطان»، أو «شيوخ الدولة».. والثاني؛ يتصدى له أنصار «الدولة المدنية الحديثة»، عبر تفنيد آليات «توظيف الخطاب الديني» من أجل إعلاء مصلحة التنظيم (أى تنظيم)، على حساب «كيان الدولة» ذاته، من دون التطرق (بشكل كبير) للجانب «الفقهي»، الذى يُصدّره التيار.
ومن هنا.. تحاول «الحلقات التالية» المقاربة بين الاتجاهين السابقين (نوعًا ما)، عبر التداخل بين ما هو «فقهي» (خصوصًا عندما يُرجح أبناء التيار آراءً بعينها، من دون سواها)، وبين ما هو «سياسي»، بشقيه: «النظري» (ترجيح آراء الغلو، والتشدد). و«التنفيذي» (حمل السلاح، نموذجًا).

يُمكننا - ابتداءً - الانطلاق من قضية اغتيال الرئيس الراحل «أنور السادات» بالعام 1981م، باعتبارها «نموذجًا» عاكسًا، لعملية ـ«توظيف الخطاب الدينى»، من الناحية التنظيمية (أى: من قِبل تيار الإسلام السياسى)، إذ تصدرت «فتاوى التكفير»  المشهد، منذ بدايته إلى نهايته.. فمن واقع تحقيقات «النيابة العسكرية» (فى قضية اغتيال الرئيس الراحل)، قال القيادى بتنظيم الجهاد «عبود الزمر»: «إنّ الدكتور عمر عبدالرحمن (ضرير).. وإقامته فى الفيوم (رئيس قسم التفسير بجامعة الأزهر - فرع أسيوط ) قد نصبوه أميرًا عامًا فى مصر كلها (1).. وهو الذى أفتى بأن أموال النصارى حرام بصفة عامة، لكنها «حلال» بالنسبة لمن يثبت أنه محارب للإسلام، أو مُظهر العداء له، أو معاون للكنيسة.. وكل تجار الذهب من النصارى يعاونون الكنيسة» (!).. وأوضح «الزمر» أنهم استفتوا «الشيخ» فى شرعية قتال الحاكم، وقتال الأمن المركزي، والشرطة، وغنم أسلحتهم.. وأنه (أي: عمر عبدالرحمن)، أفتى بـ«حل دم» الرئيس أنور السادات.
.. وكانت فتوى عبد الرحمن (كما أكد على «مضمونها»، فيما بعد، عددٌ من القيادات الجهادية، مثل: ناجح إبراهيم، وفؤاد محمود حنفي، وعلى الشريف)، هى أنّ الرئيس «كافر»، وأنّ نظام الحكم القائم «جاهلي»، مخالف للشريعة.. وأنه (أى: السادات)، جحد أصلاً من أصول الدين؛ بمحاولته التفرقة بين «الدين والسياسة» (2).
وفيما يُمكننا، هنا، ملاحظة عدد من «التقاطعات الفكرية» بين ما قال به «أمير الجماعة الراحل» (عمر عبد الرحمن)، حول «جاهلية» نظام الحُكم، وما أصّل له من قبل (الإخواني) «سيد قطب»، حول جاهلية المجتمع (فضلاً عن التقاطعات التنظيمية «السابقة» بين الشيخ نفسه، و«جماعة الإخوان»، أيضًا).. يُمكننا - كذلك - ملاحظة العديد من «التقاطعات» الأخرى، خلال تلك «المرحلة» الحرجة.
ففى العام 1958م؛ خرج شاب من صفوف جماعة «الإخوان» (تقاطع آخر) يُدعى «نبيل برعي» من داخل السجن.. وتأثر بآراء «ابن تيمية» كمنهاج للحركة.. وطالب بالعنف المسلح.. وانضم إليه فيما بعد كلٌ من: إسماعبل الطنطاوي، ومحمد عبد العزيز الشرقاوي، وأيمن الظواهرى (تقاطع ثالث مع الإخوان)، وحسن الهلاوي، وعلوى مصطفى.. وأصبح «إسماعيل الطنطاوي» قائدًا للمجموعة.. وفى العام 1973م؛ انشق «علوى مصطفى»، ومعه بعض كوادر المجموعة، وكونوا «تنظيمًا جهاديًا»، بدعوى محاربة اليهود على حدود القناة، وانضم إليهم الملازم «عصام القمري»، الذى أصبح - فيما بعد - أخطر عناصر «الجهاد الإسلامي»، التى خططت لاغتيال «السادات» بالعام 1981م (لقى مصرعه بالعام 1988م، أثناء محاولة هروبه من السجن، واثنين من زملائه).. وفى العام نفسه كوّن صالح سرية تنظيمه المعروف إعلاميًّا بـ «الفنية العسكرية»، وانضم إليه «حسن الهلاوي».. وفى العام 1977م؛ ظهر تنظيم «التكفير والهجرة» الذى أسسه «شكرى مصطفى».. وفى العام 1979م؛ تكوّن تنظيم «الجهاد الإسلامي» ، وقُسّم لاحقًا، إلى ثلاث مجموعات:
الأولى؛ بقيادة «محمد عبدالسلام فرج» (صاحب كتاب «الفريضة الغائبة»)، وعبود الزمر.. والثانية؛ بالوجه القبلىى بقيادة «ناجح إبراهيم»، و»كرم زهدي»، و»فؤاد الدواليبي».. والثالثة؛ بقيادة «سالم الرحال» (أردنى الجنسية)، وخلفه فى قيادة المجموعة بعد ترحيله من مصر «كمال السعيد حبيب».. إذ كانت كتابات: «سيد قطب»، و»أبى الأعلى المودودي»، هى الرافد الفكرى «الأساسي»؛ لمعتقدات أصحاب التوجهات الجهادية، عبر هذه المراحل المختلفة(3).
وفى سياق مراحل التكوين، التى تمخض عنها «الجهاد الإسلامي»؛ كان أن التقى كلٌ من: «كرم زهدي» (عضو شورى «الجماعة الإسلامية»)، و»محمد عبد السلام فرج» (صاحب الفريضة الغائبة)، بالعام 1979م.. إذ عرض «الأخير» على «زهدي» فكر الجهاد، وأن الحاكم قد كفر، و»خرج عن الملة».. لذا؛ وجب «الخروج عليه»، وخلعه، و»تغيير النظام».. وأن تنظيمه (أي: التنظيم الجهادي، الذى كان يقوده فرج)، يمتلك تشكيلات متنوعة.. وبالتالي؛ فعليهم التعاون بشكلٍ مشترك؛ من أجل «إقامة الدولة الإسلامية».. ومن ثمَّ.. عرض «كرم زهدي» الفكرة على مجلس شورى «الجماعة الإسلامية» بالصعيد (كان يرأسه، وقتئذ، د. ناجح إبراهيم).. فوافق «المجلس» على هذا الأمر، شريطة أن يكون هناك «مجلس شورى عام»، و»مجلس شورى القاهرة»، وأن يتولى «إمارة الجماعة» أحد العلماء العاملين، الذين لهم مواقفهم الصلبة ضد الطاغوت (وقع الاختيار، حينها، على الشيخ «عمر عبد الرحمن»).. وعلى هذا؛ تم إقرار تشكيل «الجناح العسكري»، و»جهاز الدعوة والبحث العلمي»، و»التجنيد»، و»تطبيق القوانين الإسلامية».
■ ■ ■
فى أعقاب اغتيال «الجهاد» للرئيس السادات»؛ تم اعتقال أمير التنظيم (عمر عبدالرحمن)، واتهم بالإفتاء بحل دم الرئيس، إلى جانب عدد آخر من التهم.. لكن.. تمّ إطلاق سراحه من قضية الانتماء لـ»الجهاد»، وغيرها.. لعدم ثبوت الأدلة (!).. وعلى هذا؛ كان أن خرج من محبسه؛ ليواصل «نشاطه» مُجددًا، حول شرعنة أفكار «الخروج على نظام الحُكم».. وهو ما أدى إلى توقيفه (أكثر من مرة!)، وتحديد إقامته بمنزله بالفيوم (كان من بين ما وجه له من اتهامات، أثناء «تحديد إقامته»، تحريض المصلين على التجمهر بعد صلاة الجمعة).
وفى سياق رحلة «التقاطع الفكري» بين المجموعة التى اغتالت «الرئيس الراحل»، والشيخ عمر (الذى أصبح أميرًا للجماعة، فيما بعد)؛ يُمكننا ملاحظة أنّ الشيخ (منذ مرحلة مبكرة)، كان أكثر تأثرًا بأفكار «الخروج على الحاكم».. وهى الأفكار، التى راجت فى أعقاب ما أسمته «الأدبيات الإخوانية» بمحنة الستينيات التى أُعدِم خلالها «سيد قطب» (الأب الروحى لأفكار جماعات العنف، والتكفير).. وبدا الشيخ ناقمًا على «النظام الناصري» فى هذه الأثناء (يتردد أنّه كان مسئولاً، حينها، عن «جماعة الإخوان» بالفيوم).. ويُقال (وفقًا لما ذكره لنا، من قبل، أحد القيادات السابقة بالتنظيم) إنه أفتى، بعد وفاة الرئيس «جمال عبدالناصر»، بعدم جواز الصلاة عليه (!)
ورأى الشيخ أنّ ما حدث مع أستاذه «سيد قطب»، يؤكد ضرورة «حمل السلاح» فى مواجهة من اعتبره «سلطانًا جائرًا».. ونظرًا لمواقفه «الحادة»؛ أوقف الشيخ عن العمل بـ»كلية أصول الدين»، التى عُين معيدًا بها بالعام 1969م.. وفى أواخر تلك السنة رُفعت عنه عقوبة الاستيداع.. لكن.. تم نقله من الجامعة إلى «إدارة الأزهر»، من دون عمل تقريبًا.. وبعد وفاة «الرئيس عبد الناصر» (فى سبتمبر من العام 1970م)؛ تم القاء القبض عليه فى أكتوبر من العام نفسه.. وفى هذه الأثناء؛ حصل على درجة الدكتوراه.. وكان موضوعها : «موقف القرآن من خصومه كما تصوره سورة التوبة».. إلا إنه لم يعد لكليته مرة أخرى؛ إذ عاد فى صيف 1973م، إلى «كلية البنات وأصول الدين»، بأسيوط.. ومكث بالكلية أربع سنوات، حتى العام 1977م، ثم أعير إلى كلية البنات بالرياض، حتى العام 1980م، قبل أن يعود إلى مصر، مرة أخرى.
■ ■ ■
هنا (على وجه التحديد)، كانت مرحلة التقارب الأكثر اتساقًا بين الشيخ «الناقم على الدولة» (بمفهومها الحديث)، و»جماعات العنف».. فرغم أنّ «الشيخ» أخلى سبيله فى قضية «اغتيال السادات» لعدم ثبوت الأدلة، إلا أن «المنتج الفقهي» للشيخ (خلال تلك الفترة، وما تلاها)، لم يخرج فى مضمونه عن تأصيل فكرة «الخروج على الحاكم» من الناحية الشرعية.. إذ ثمة مؤلف للشيخ  (لم يتم تداوله خارج نطاق جماعات العنف، بشكل كبير)، يحمل عنوان: «أصناف الحكام وأحكامهم»، يُمثّل - فى مجمله -  تنويعًا «صريحًا» على تلك الأفكار كافة، بوصفه أحد «دساتير التكفير»، التى اعتمدتها «جماعات العنف» خلال تلك الفترة.
ورغم أن هذا المؤلف، لم يسلط عليه الضوء، من قبل، بشكلٍ كافٍ (نمتلك نسخة منه).. إلا أنّ «خلفياته المعرفية» تعكس أمامنا جانبًا «مُهمًا» من جوانب «التقاطعات الفكرية» بين العديد من تنظيمات «الإسلام السياسي» المختلفة.. إذ استقى «الشيخ» (على سبيل المثال) العديد من «ثوابته الفقهية»، التى غذى من خلالها «الأفكار الجهادية» من بين مؤلفات (قيادات إخوانية بارزة)، مثل: «على جريشة» (أصول الشرعية الإسلامية – أركان الشرعية الإسلامية)، و»عبد الكريم زيدان» (أصول الدعوة)، و»عبد القادر عودة» (الإسلام وأوضاعنا السياسية – التشريع الجنائى الإسلامي)، وغيرهم (فضلاً عن «المصادر التراثية» الأخرى، التى لا تزال محلاً للتأويلات «المتباينة، إلى اللحظة).. أما كيف انعكست «تلك الصورة» على العديد من «صفحات الكتاب»، وغيره من «دساتير العنف»؟..
فهذا ما سيكون لنا معه عدة وقفات تالية.

    هوامش

(1)- ولد عمر عبد الرحمن» بالعام 1938م، وتوفى فى 18 فبراير من العام الجارى (2017م).. تم اعتقاله فى سبتمبر من العام 1981م، ضمن قرارات التحفظ.. إلا أنه تمكن من الهرب، حتى تم القبض عليه بعد شهر من هذا التاريخ.. وتمت محاكمته فى قضية «اغتيال السادات» أمام «المحكمة العسكرية»، و»محكمة أمن الدولة العليا».. إلا أنه حصل على البراءة فى القضيتين، لعدم ثبوت الأدلة (!).. ثم خرج من محبسه فى أكتوبر من العام 1984م.. وسافر إلى «الولايات المتحدة» ليقيم فى ولاية «نيوجرسي».. وهى مرحلة «غامضة» - إلى حد كبير - فى حياة الشيخ؛ إذ  لماذا اختار أمريكا على وجه التحديد (؟).. ولماذا سُمح له بالدخول والإقامة هناك، من حيث الأصل (؟!).. وأيًّا كان الأمر.. فقد وجد الشيخ نفسه، فيما بعد، بين يدى قوات الأمن الأمريكية بتهمة التورط فى «تفجيرات نيويورك» بالعام ليقضى عقوبة السجن مدى الحياة بولاية «كلورادو»، قبل أن توافيه المنية الشهر الماضي.
 (2)-  موسى صبري، «السادات الحقيقة والأسطورة»: (القاهرة: المكتب المصرى الحديث، 1985م)، الطبعة الثانية.
(3)- رفعت سيد أحمد (دكتور)، «النبى المسلح - الجزء الأول: الرافضون»، (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر)، (بتصرف).