الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

موسيقى ورقص وغنا فى شوارع الإسكندرية الخــلفيـــة

موسيقى ورقص وغنا فى شوارع الإسكندرية الخــلفيـــة
موسيقى ورقص وغنا فى شوارع الإسكندرية الخــلفيـــة




أحيانا قد تعانى بعض المهرجانات الدولية من عدم وجود فلسفة ورؤية واضحة تجمع عروضها الفنية، وبالتالى قد تأتى هذه المهرجانات مشتتة الرؤية وغير واضحة المعالم فنجدها تحوى أعمالا مسرحية لا يجمعها شيء سوى أنها مجرد عروض أجنبية جمعتها مظلة مهرجان واحد، لكن هنا فى مدينة الإسكندرية كنا بصدد حضور النسخة الرابعة من مهرجان «الشوارع الخلفية» برئاسة المخرج المسرحى محمود أبو دومة فى الفترة من 29 إلى 1 إبريل الجارى وهو مهرجان لا يشبه المهرجانات المسرحية سواء المحلية أو الدولية، حيث اعتمد فى ابهاره على شدة بساطته ووضوح فلسفته ورؤيته، حملت عروضه قدرا كبيرا من المتعة الخالصة، فلم ترهق جمهورها بدراما فكرية أو تراجيديا فنية، بل على العكس كانت فلسفة معظمها التفاعل والإندماج مع الجمهور إلى حد مشاركته بشكل حقيقى فى العرض المسرحى وكأنه جزء أساسى مما يحدث هنا والآن.
تقوم فلسفة «الشوارع الخلفية» على فكرة استغلال المساحات بالأماكن المفتوحة والتحرر من خشبات المسارح التقليدية وتقديم العروض فى اى مكان يسمح لاستيعابها، وبالتالى استغل المهرجان أماكن عديدة ومتنوعة بالإسكندرية منها ساحة المركز الثقافى الفرنسى الخارجية، مركز الجيزويت الثقافي، والكنيسة التابعة له، مدرسة «سان جبرائيل»، المدرسة الألماني، وكالة بهنا، وشوارع الإسكندرية


 ولم يقتصر المهرجان على العروض التفاعلية فقط، بل عرض أكثر من فيلم سينمائى ضمن فعالياته كان من بينها «الأحلام الراقصة» ألمانيا يتناول الفيلم جانبا من حياة مصممة الراقصات العالمية بينا باوش، تأليف آن لينسيل وإخراج رينر هوفمان وآن لينسيل، وفيلم «الراعي» من البرتغال بوكالة بهنا وهو فيلم فيديو سيرك مستوحى من إحدى قصائد ألبرتو كاييرو، «زى عود الكبريت» مصر تأليف وإخراج حسين الإمام، وتدور أحداث الفيلم حول حكاية كوميدية ابتكرها المخرج الراحل حسين الإمام لتقديم تحية وتقدير لنجوم السينما المصرية، «فتيات السوينج» اليابان تأليف وإخراج شينوبو ياجوتشى وهو فيلم كوميدى يدور حول مجموعة من فتيات الثانوية المهملات.
افتتح المهرجان فعالياته بساحة مركز الجيزويت الثقافى بعروض المسرح التفاعلى يوم 29 مارس، وكان عرض «اتنين 2» إخراج تشينج مايير فرقة «EINZ» سويسرا اعتمد العرض على اللعب بالزجاجات والأحبال والمائدة بالتبادل بين اثنين رجل وامرأة واعتمد الاثنان على الإبهار بسرعة الإنتقال من حركة إلى أخرى ومن مشهد إلى آخر وبالاتزان الجسدى باستخدام الزجاجات الفارغة وتحريكها والمشى فوقها وكذلك بالمرونة فى تحرك كليهما معا واتخاذ أوضاع مختلفة أمام الجمهور وكان العرض أشبه بعروض السيرك والأكروبات وتميز بخفة ظل وحركة المؤديين إستير وجوناس سلانزي، كان من بين العروض المبهرة والمميزة للغاية عرض الإيقاع والموسيقى لفرقة «كوبنهاجن درامرز» بالتعاون مع فرقة «بركشن شو» ولاعبى الباركور المصريين وفن الباركور يتخلص فى أن تنظر للبيئة برؤية مبتكرة يصبح فيها كل جدار أو حائط أو فجوة فرصة جديدة لتجربة حركة جديدة، وبالتالى افتتح العرض ببداية غير تقليدية عن طريق قفز بعض الراقصين من على سور حديقة مركز الجيزويت الثقافى واتخذ كل منهم أوضاع مختلفة ومتنوعة بالقفز والحركة السريعة مما ساهم فى جذب انتباه الجمهور ودهشتهم ثم اكتشف الجمهور فيما بعد أنه على موعد مع اكتشاف عالم جديد ونادر من فن الإيقاع والعزف على آلة الدرامز، من خلال أربعة من عازفى الإيقاع دانيال هانسن، جيس هايلبي، ماتى شنايدر، ونكولاج سيكارد، قام هؤلاء بإحداث حالة من الإنقلاب داخل المسرح بالعزف الإيقاعى المتنوع والإضاءة التى صاحبت هذا العزف منها إضاءة عصيان العازفين ثم إضاءة آلات الدرامز نفسها ومزج إضاءتها بالمياه والعزف فى وقت واحد، ولم يكتفوا بتقديم عزف مبهر ومختلف بل عزفوا بأكثر من طريقة عن طريق استخدام وسائط أخرى غير آلة الدرامز منها صناديق القمامة والتى عزفوا بها فى أكثر من مرة وبأكثر من موضع وكذلك «قدرة الفول» ثم قدموا شكلا جديداً بالعزف على الدرامز باستخدام الماء مما ساهم فى جعل العمل أشد جذبا وابهارا للجمهور واندمج الجمهور مع هذا الفريق بحرارة شديدة، وساهم هذا العرض فى خلق حالة من المتعة غير الاعتيادية ثم شاركهم بعزف الإيقاع الشرقى على الطبلة الفريق المصرى «بركشن شو» وهم محمد جمال «ميزو»، أحمد عبد العظيم، أحمد أبو المعاطي.
كان من بين العروض المميزة أيضا عرض «أسرع رجل على قيد الحياة» السويد للمؤدى والراقص فاكس آمادا اعتمد العرض على الموسيقى والأداء الحركى البطيء بساحة مركز الجيزويت الثقافي، لكنه كان أداء حركى غير تقليدى فلم يكتف آمادا بالرقص فقط، بل قرر تحريك أجزاء جسده بأكثر من شكل وأكثر من طريقة وبأوضاع مختلفة مثل حركة الرأس والأكتاف وعضلات الجسد فعروضه تعتمد بالأساس على الارتجال الحركى أمام الجمهور والتفاعل معه فهو يتحدث إليهم طوال الوقت.
استضاف المهرجان هذه الدورة العرض الغنائى «A CAPPELLA NIGHT» لفريق «Black voices» من المملكة المتحدة قدم الفريق عرض مبهر ومختلف بأداء الموسيقى والغناء فلم يستخدم العرض عزف موسيقى يذكر أو آلة واحدة، بل اعتمد أبطاله على الأداء الموسيقى الصوتى بأفواههم عن طريق تقليد صوت الآلات الموسيقية بتحريك الشفاة بأداء شديد التميز والعذوبة أبهر الحاضرين قدمت فيه المغنيات الخمس ساندر فرانسيز، شيريس ستورود، سيسليا ويكهام آندرسون، بيفرلى روبنسون، كارول بيمبرتون، مجموعة من أغانى الأكابيلا بكنيسة مركز الجيزويت الثقافى وتعتبر هذه هى المرة الأولى التى تشارك فيها الكنيسة كمركز ثقافى ضمن فعاليات المهرجان، ويشتهر هذا الفريق عالميا بأدائه الغنائى للتراث الشفهى وهو أحد أنماط الموسيقى المبنية على فن الحكى والفنون الشعبية القديمة فى أفريقيا ويعتبر هذا التراث مصدر إلهام للفريق فى إعداد وترتيب مخزون فريد من الأناشيد الروحية ومجموعة أغانى الفلكلور والجاز والجوسبل أو «الغناء الإنجيلي» والبوب، والريجى من التراث الأفريقى والكاريبى والإنجليزى هذا بالإضافة إلى مزجها بين أنماط الموسيقى المعاصرة والكلاسيكية.
من بين العروض التفاعلية المميزة أيضا كان عرض «إسكندرية بيفواك» والذى عرض بملعب مدرسة «سان جبرائيل» وهو مشروع تعاون مشترك بين فرقة جينيرك فابور من فرنسا والمؤسسة الدولية للإبداع والتدريب «I-act» كان من أكثر عروض المهرجان غرابة وتميزا حيث اعتمد منذ اللحظة الأولى على فكرة لفت نظر الجمهور وسحبهم للإندماج والسير على الأقدام مع أبطال العرض كان عنصر الجذب المبدئى فى ارتداء أعضاء الفريق بدل موحدة باللون الرمادى وطلاء وجهوهم ورؤسهم باللون الأزرق واتخاذ أشكال خرافية أشبه بالأشباح، ثم خرج أبطال العرض سيرا على الأقدام من باب المدرسة على كورنيش الإسكندرية وبدأوا فى مداعبة المارة وأصحاب المحلات والسيارات واتخذوا أوضاعا كوميدية ضاحكة أثناء مداعبتهم للجمهور بالشارع ثم عادوا من باب المدرسة الخلفى لتبدأ أحداث العرض والتى كان ابرزها كسر حواجز البراميل التى اتخذت اشكال هرمية داخل المدرسة وهدمها ثم اللعب بها مع الجمهور وهو أشبه بالعروض الكرنفالية التى تهدف إلى مشاركة الجمهور والأطفال وصناعة حالة من البهجة وهو ما نجحوا فيه حرفيا، وكذلك كان عرض «ضيوف فيجينشترايتس» لفرقة إيرفييش النمسا اعتمد العرض فى تواصله مع الجمهور على التفاعل الحى والإيماءات الكوميدية مرتدين بدلا سوداء ويتحركون بسيقان خشبية وسط الجمهور الذى لم يكفوا عن مداعبته والارتجال معه لحظة واحدة.
ولمزيد من الإبهار وتحقيق عنصر الدهشة فى الاستغناء التام عن خشبة المسرح وكذلك الاستغناء عن مساحة الأرض المتاحة للالتحام مع الجمهور قرر فريق عرض «حد الاعتدال» إكوينوكس أن يدهش الجمهور بالعرض على واجهة أحد مبانى المدرسة الألمانية من خلال نوافذ المبنى التى خرج منها الممثلون يسردون مقاطع من نص الدكتور محمود أبو دومة عن مدينة الإسكندرية الغائبة بحضارتها الثقافية ومنارتها القديمة ولم يكتف الممثلون بالكلام والحوار السردى فيما بينهم بل كان التحدى فى صنع أداء حركى راقص عن طريق النزول بأحبال وأسلاك من أعلى المبنى فى وضع السقوط من أعلى إلى أسفل بالأداء الحركى الفردى والجماعى فكل ممثل يسقط من نافذته ممسكا بيد الأخر ثم اشتبك الجميع فى وضع السقوط بالأيدى فى حركة راقصة وكأنهم مجموعة من الطيور المحلقة من أعلى إلى أسفل، فكان من أشد عروض المهرجان متعة وإبهارا، «حد الاعتدال» عبارة عن مشروع تدريبى بين جماعة المسرح البديل لمديرها الدكتور محمود أبو دومة وفرقة جروتيست مارو من ألمانيا.
لم تقتصر عروض المهرجان على المسرح والموسيقى فقط بل كان من ضمن عروضه الممتعة أيضا عرض الرقص «سوينج دانس» والذى قدمه كل من أجوستينا زيرو وماكسى برادو من الأرجنتين اعتمد العرض على التفاعل الحى والالتحام التام مع الجمهور بإحدى قاعات المركز الثقافى الفرنسى فلم يكتف الراقصان بتقديم رقص ممتع «السيونج دانس» بل تحولت قاعة العرض لورشة رقص ارتجالية للتعليم والرقص مع الجمهور واستجاب الحاضرون بشدة بالرقص معهما والاستماع إلى تعليماتهما فى كل رقصة جديدة وتحول العرض لساحة رقص جماعى بين أبطاله والحاضرين، من بين العروض التى تعمدت أيضا الالتحام والتفاعل الشديد مع الجمهور ومشاركته بشكل قوى وارتجالى بأحداثه كان عرض «المشردون» لفرقة إيرفييش النمسا بساحة المركز الثقافى الفرنسى أداء ستيفان جراسل، رودولف هبينجر، كريستوف دومالين خلا العرض من قصة درامية أو أحداث تذكر اعتمد فقط على مواقف كوميدية وارتجالية يستعرضها هؤلاء المشردون معا بحمل صندوق خشبى وسلالم حديدية وأحبال طويلة وجنازير وكرسى ودرامز وعصى وتم استخدام هذه الأدوات واللعب بها مع الجمهور ضمن أحداث العرض وبالفعل نزل بعض الحاضرين لمشاركتهم فى القفز بالأحبال واللعب على الدرامز بالإيقاع ثم مداعبة الحضور بألعاب تشبه السيرك والأكروبات والإختفاء داخل الصندوق الخشبى ثم الخروج منه، كان من بين الأعمال الممتعة أيضا عرض «عرائس بودابست» لبينس سركادى الأرجنتين لعب بطل العرض وحده العاب مختلفة بأكثر من عروسة صغيرة وكبيرة الحجم وحرص أيضا على مشاركة ومداعبة الجمهور معه بالعرائس كما قدم عروسة راقصة على الطريقة التركية واعتمد على اللعب والتحريك الحى لعرائس الماريونت أمام الجمهور، وتعزيزا إلى فتح سبل وأفق التعاون بين مهرجان «دى - كاف» للفنون المعاصرة ومهرجان الشوارع الخلفية يستضيف «دى - كاف» فى دورته الحالية بالقاهرة نفس العرض فى سياق برنامج «رؤى المدينة».
هكذا حقق المهرجان غايته حين اتخذ من البهجة شعارا له، تحت عنوان «مشروع البهجة» يقيم الشوارع الخلفية دوارته كل عام لكنه توقف فقط العام الماضى لمرور إدارة المهرجان ببعض العثرات المادية والتى تم تجاوزها هذا العام، واستطاع القائمون على المهرجان الدكتور محمود ابو دومة رئيسه ومديره الفنى أمينة أبو دومة الوصول إلى صيغة ورؤية واضحة تجمع عروضه وتضمن له تحقيق فلسفته الرئيسية وهى المتعة والبهجة والتلاحم الحى مع الجمهور واستغلال مساحات أخرى أوسع وأرحب من خشبات المسارح متجردا من الشكل التقليدى المعتاد للمهرجانات الدولية فكانت عروضه أشبه بالكرنفالات الاحتفالية بالشوارع والميادين استطاع بها أن يعيد روح البهجة لجماهير الإسكندرية.