الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

للحب أهواله وأحواله «قواعد العشق» 40

للحب أهواله وأحواله «قواعد العشق» 40
للحب أهواله وأحواله «قواعد العشق» 40




«كنت ميتًا فأصبحت حيًا.. كنت باكيًا فأصبحت ضاحكًا.. جاءت دولة العشق.. فأصبحت دولة خالدة».. لكل صوفى تجربته الروحية وعبر جلال الدين الرومى عن تجربته الخاصة بهذه الكلمات، تلك التجربة التى جردته من جلال علمه وأدخلته إلى عالم الحب والوله والاشتياق، تناولت الكثير من الكتب والروايات بالشرح والتحليل هذه التجربة الصوفية شديدة الخصوصية التى تعرض لها العالم الجليل، علاقة حب نادرة جمعته بالدرويش شمس التبريزى الذى أحدث زلزالا عنيفا فى حياته، من هذه الكتب كانت رواية «نار العشق» لنهال تجدد، «جلال الدين الرومى بين الصوفية وعلماء الكلام»، وديوان «بحثا عن الشمس» الذى ألفه الرومى بنفسه وكذلك «المثنوى»، وأخيرا رواية «قواعد العشق الأربعون» لإليف شافاق والتى قدمت مؤخرا فى عمل مسرحى يحمل نفس الاسم على خشبة مسرح السلام للمخرج عادل حسان.
كل الكتب التى تعرضت لهذه العلاقة وصفت بدقة شديدة حالة الوجد والعشق التى تحول لها هذا العالم الذى اعتبر شمس التبريزى رسولا من ربه جاءه كى يجرده من ذاتيته وهيبته كشيخ ومعلم كبير، قلب حياته رأسا على عقب وفتح آفاق نفسه وروحه إلى عالم آخر لم يسبق أن عرفه، فبرغم اتساع علمه وثقافته إلا أنه اكتشف أن عالم الروح كان محجوبا عنه وجاء التبريزى ليكشف عنه غطاء وحجاب هذا العالم فأصبح بصر الرومى معه حديدًا، نجحت إليف شافاق ونهال تجدد فى كتابيهما «قواعد العشق»، و«نار العشق» فى حكى تفاصيل هذه العلاقة الغريبة التى جمعت الحبيبين، ربما كانت الأخيرة أكثر اتساعا وعمقا فى تناول هذا الموضوع خاصة فى وصف البيئة التى أحاطت بالرومى والتبريزى وكذلك فى الأشخاص الذين أثروا فى حياة كليهما، وبالتالى يكون من الصعب على أى عمل مسرحى أو فنى تقديم هذه الحالة الصوفية التى تحتاج الكثير والكثير من العمق كى تصل إلى قلب وعقل المشاهد كما نجحت فى الوصول إلى قلوب قراء هذه الروايات التى ساهمت فى شهرة علاقة الرجلين فى مصر والعالم.
نجح المخرج عادل حسان والكاتبة رشا عبد المنعم ومعهما فريق الكتابة ياسمين إمام وخيرى الفخرانى فى بناء قواعد هذا العرض، وقرروا خوض التحدى ونجحوا فى استقطاب جمهور الرواية إلى خشبة المسرح لمشاهدة ما ظل يداعب خيالهم من عمل روائى طوال السنوات الماضية، فاستطاعت رشا مع فريقها تحويل هذه الرواية الأشهر إلى عمل مسرحى جيد ورصين، من خلال تكثيف أحداثها التى تجاوزت صفاحاتها الخمسمائة صفحة واختزال كل هذه الصفحات فى ساعتين فقط، ففى حين أرادت الكاتبة إليف شافاق الحديث عن دور الحب فى تغيير حياة البشر وقوة تأثيره فى نقل الإنسان من حال إلى حال عن طريق الخط الأوروبى الذى جاء بالرواية متمثلا فى شخصية إيلا ربة المنزل الكئيبة الصابرة على علاقة زوجية رتيبة وظهور عزيز فى حياتها كاتب رواية «الكفر الحلو» التى تناولت علاقة الرومى بشمس التبريزي، وهكذا خلقت الكاتبة أحداثًا من نسج خيالها صنعت بها رواية داخل الرواية كى تؤكد على فكرة الحب بمعناه الأشمل بين رجل وامرأة ثم بين هذين القطبين، لكن عبدالمنعم وفريقها كانوا أذكى وأحرف فى إعداد النص المسرحى فلم تهتم رشا وصناع العرض بهذا الخط الروائى المفتعل خصوصا وأن الأكثر جذبا وصناعة للدهشة هو تناول علاقة حب بين رجلين، لأنه شىء نادر الحدوث، ليست علاقة شاذة بالطبع، لكنها علاقة إنسانية روحية استسلم فيها عالم جليل لدرويش جوال، كى يعلمه مما علمه ربه فهى أشبه بقصة سيدنا موسى والخضر، وهنا قدم الإعداد المسرحى تكثيف غير مخل بالرواية على الإطلاق بعكس ما يحدث عادة فى تحويل الأعمال الروائية إلى أعمال فنية والتى قد يتهم معد نصوصها بالحذف والإخلال بمضمون وعمق الرواية، فهنا توغلت رشا وصناع العمل إلى جوهر الرواية مباشرة دون مط أو مراوغة أو تطويل فى تناول علاقة الرومى بشمس التبريزى وكيف واجه الاثنان الاتهامات والحرب عليهما وجاء معظم وأغلب الإعداد المسرحى من نص الرواية نفسه مع الاستعانة ببعض الكتب والمراجع التى تناولت تلك العلاقة مثل كتاب الرومى «المثنوى».
بدأت أحداث العرض ببحث الرومى عن شمس بعد أن هجره وحديثه عن لوعة اشتياقه ومر فراقه، وبمرض كيميا حزنا عليه ثم رواية الرومى وحكايته الطويلة عنه منذ لقائه به وبدء اشتعال الحب بينهما، تميز الإعداد فى صناعة عمل محبوك دراميا، كما استطاع المخرج انتقاء عناصره الفنية بمهارة والتى هيأت له وضع الجمهور فى حالة صوفية وروحية كان أبرز هذه العناصر إضاءة إبراهيم الفرن والتى اعتمد معظمها على استخدام القناديل فأصبح المسرح أشبه بالحضرة الصوفية، وكذلك الألحان والموسيقى التى أعيد تلحينها كاملة من جديد للدكتور محمد حسنى وغناء سمير عزمى وأميرة أبوزيد وقدم سمير وأبو زيد مجموعة منتقاة من الأشعار الصوفية لمحيى الدين ابن عربى، ابن الفارض، الإمام سعيد بن أحمد بن سعيد ومنها «هو الحب»، «قلبى يحدثنى بأنك متلفي»، «زدنى بفرط الحب»، «قمر»، «عرفت الحب»، «ترنيمة مريم»، بالإضافة إلى بعض الابتهالات والتواشيح وأدى معظم هذه الأغانى المطرب سمير عزمى الذى شكل عنصرا أساسيا فى وضع الجمهور فى هذه الحالة الذهنية الصافية بصوته العذب وأدائه الغنائى المتميز وكانت له تحية خاصة من جمهور العرض عقب نهايته.
كان من ضمن البناء المميز لهذا العمل أيضا الشكل التكعيبى الذى شكلت عليه خشبة المسرح حيث قام مهندس الديكور مصطفى حامد بتقسيم خشبة المسرح إلى مستويين مستوى أول وثان قسم المستويان على شكل أركان تشبه المكعبات اتخذ من كل ركن رمزًا لبيت الرومى وزوجته وأبنائه ثم ركن للمكتبة والغرفة التى جمعته بعشيقه، وركن للمطربين والعازفين وراقصى فرقة المولوية وتوزيعهم بتوازن من أعلى إلى أسفل خشبة المسرح فجاءت الحركة منضبطة ومتزنة، ثم تعددت الأركان بحسب حاجة الأبطال فى الانتقال، ويعتبر هذا التقسيم نوع من الحل اليسير حتى لا يضطر مهندس الديكور لتصميم أكثر من منظر فجمع أحداث العرض فى منظر واحد بخلاف بيت الغانية الذى خرجت منه شخصية ورد الفتاة التى جذبها التبريزى.
للحب أسراره وأهواله وحوت هذه العلاقة الكثير من الأسرار الروحية التى لم يكتشفها أحد حتى الآن، فانقلب فيها الرومى من حال إلى حال تناولت رواية «قواعد العشق» جانب من هذه العلاقة الصوفية وضمت أكثر من شخصية أثرت وتأثرت بحياة العشيقين جلال الدين الرومى وشمس التبريزى من هذه الشخصيات كانت كيميا والتى لعبت بطولتها فوزية وأدت الدور بما يتوافق مع ضعف ورقة هذه الفتاة الجميلة التى أحبت التبريزى وتزوجته لكنها شقيت بهذا الحب، وكذلك ابنى الرومى هانى عبد الحى الابن المتمرد الكاره لظهور شمس فى حياة والده وقدم عبد الحى الشخصية بمهارة واحتراف وكذلك ياسر أبو العينين فى دور الابن الهادئ المحب والمطيع لوالده، أما بطلا العرض عزت زين فى دور جلال الدين الرومى وبهاء ثروت فى دور شمس التبريزى فكان كلاهما اختيارا موفقا من المخرج،  لعب الأول دور الرومى فى أحواله المختلفة وانتقاله من العالم والخطيب إلى الحبيب والرفيق بمهارة وبساطة تليق بشخصية جلال الدين الرومى، وكذلك كان بهاء ثروت فى دور شمس وربما تخلى الأخير عن إبراز الجانب الغليظ الجاف فى شخصية التبريزى وتعمد تقديمه رقيقا فى كل الأحوال داعيا الناس للعشق بحكمة حتى معارضيه وكارهيه فإلتزم الهدوء واللين فى أداء الشخصية ولم يبزر غلظته مع كيميا فى بعض الأحيان أو حتى مع  ابن الرومى عاشق زوجته، وأغلب الظن أن للمخرج حكمة فى عدم إبراز الجانب العنيف بشخصية شمس فلم يشأ تشتيت المتفرج فى التركيز والتفكير بشخصية شمس وحده على حساب العلاقة نفسها حتى يقع الجمهور فى غرام الاثنين معا دون الوقوع فى شك وحيرة وتساؤل لماذا اتبع الرومى الرقيق هذا الرجل الفظ الغليظ؟!، فهما رجلان جمعهما البحث عن العشق الإلهى، أو قد ينكر على كيميا حبها العنيف له، فهذه الشخصيات غريبة الأطوار قد لا تحظى بحب وتعاطف الجمهور إذا قدمت على حالها ووضعها الحقيقى، لأن هذه الشخصية على وجه التحديد جاء وصفها فى كل الكتب التى تناولت هذه العلاقة بأنه رجل محير فظ غليظ صعب المراس لا يمكن توقع ردود فعله بينما ركز العرض فقط على جانب الغموض والحكمة فيه، لأن هذه هى الصفات الأقرب لقبول دعوة الحب، كما أن وقت العرض المسرحى لا يسمح بشرح جوانب وتفاصيل شخصية شمس التبريزى كما جاءت بالكتب والمراجع كى يحبها ويتعاطف معها الجمهور، شارك فى بطولة العرض أميرة أبوزيد فى دور كيرا زوجة جلال الدين الرومي، وإيهاب بكير فى دور بيبرس، محمد عبدالرشيد، هشام على، دينا أحمد، هدى عبدالعزيز أزياء مها عبد الرحمن وفرقة المولوية على طه ووليد عبدالعزيز، وبجانب تميز هذا العرض على المستوى الفنى تعتبر فكرة تقديمه قرارا فى غاية الصواب والأهمية فى هذه اللحظة السياسية الحالكة التى تعيشها مصر من تطرف فكرى وتعصب دينى فيعد هذا العمل دعوة للتفكير والتفكر فى التعرف على الله والوصول إليه عن طريق الحب وإعلاء قيمة القلب وسلامة الباطن على الادعاء والمظاهر.
ولد جلال الدين الرومى فى مدينة بلخ فى السادس من ربيع الأول عام 604 وكان أجداده من أهل خراسان لكنه أمضى حياته فى قونية والده بهاء الدين ولد لقب بسلطان العلماء، وتأثر الرومى  فى طفولته بعلم والده وبالشيخ فريد الدين العطار، كان الرومى عالم جليل وخطيب فذ لم يسمعه أحد إلا وفتن بكلامه وخطبه، وتعدد تلاميذه ومريديه إلى أن ظهر فى حياته على نحو مفاجئ هذا الدرويش المجذوب شمس التبريزى والذى كان سببا فى تعليمه رقصة السماع حيث يرى شمس أن فى الرقص مظهرا للهيجان الصوفى والقدرة السحرية على الوصل وهو نوع من التلاشى لتعريف العشق االقاهر للجسد لدى المتجردين، كان لهذا الرجل تأثير كبير فى حياة الرومى الذى تألم بشدة بعد رحيله وألف فيه أشعارا لا حصر لها فى الحب والغزل والشوق وشكوى الهجر ولوعة الفراق ومن أشعاره فى ديوان بحثا عن الشمس.. «الصوفى ابن الوقت أيها الرفيق.. وليس قولك «غدا» من شروط الطريق»..!