الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

«الإسلام السياسى».. وتوظيف «الخطاب الدينى» الحلقة 7

«الإسلام السياسى».. وتوظيف «الخطاب الدينى»  الحلقة 7
«الإسلام السياسى».. وتوظيف «الخطاب الدينى» الحلقة 7




الـردة.. وما أدراك ما الردة؟!


لأسباب مختلفة (تتعلق بـ«البناء المعرفي» لتيار الإسلام السياسى)، فإن أغلب الروافد «المغذية» لمعتقدات التيار، تقف فى موضع «الخصم» من مرتكزات «الدولة الوطنية» (أى دولة) بمفهومها المعاصر؛ إذ تتراجع تلك «المرتكزات» (عند أبناء تيار «الإسلام السياسى») فى مقابل إعلاء فكرة «دولة الخلافة»، وحتمية استعادتها.. ومن ثمَّ.. ينطلق جُل أبناء التيار - غالبًا - فى فهمهم لنموذج «الدولة الحديثة» - بحدودها الجغرافية، المُتعارف عليها - من أنها صنيعة «القوى الاستعمارية»، التى أسقطت «دولة الخلافة» فى عشرينيات القرن الماضي.. من دون الالتفات لعددٍ من الخصوصيات التاريخية، والحضارية، التى تزخر بها العديد من بلدان «الشرق الأوسط».. فالدولة المصرية (على سبيل المثال)، امتلكت – من الناحية التاريخية – حدودًا «مستقرة»، ومعروفة، حتى قبل تأسيس «دولة الخلافة» نفسها بآلاف السنين (باستثناء حقب تاريخية، معدودة).
وإجمالاً.. يؤسس «التيار»، هنا، توجهاته؛ اعتمادًا على رافدين «رئيسيين»: الأول؛ هو «المُنتج الفقهى» (الشرعي)، والثاني؛ هو «توظيف» هذا المُنتج (سياسيًّا، وتنظيميًّا)، فى إطار التخديم على مفهوم استعادة «دولة الخلافة» (المندثرة).. وفى مقابل هذا التأسيس؛ تبدو - فى كثير من الأحيان - الساحة «النقدية»، المتصدية لتفنيد «الدعاوى»، التى يؤسس عليها تيار «الإسلام السياسى» منطلقاته الفكرية، وكأنها تسير فى اتجاهين، لا يلتقيان إلا نادرًا: الأول؛ يتعلق بتفنيد مرتكزات «المنتج الفقهى» للتيار (كتوجه دينى).. وهو دورٌ، كثيرًا ما كانت تتم محاصرة المتصدين له، باتهامات (جاهزة)، مثل أنهم: «فقهاء السلطان»، أو «شيوخ الدولة».. والثاني؛ يتصدى له أنصار «الدولة المدنية الحديثة»، عبر تفنيد آليات «توظيف الخطاب الديني» من أجل إعلاء مصلحة التنظيم (أى تنظيم)، على حساب «كيان الدولة» ذاته، من دون التطرق (بشكل كبير) للجانب «الفقهي»، الذى يُصدّره التيار.
ومن هنا.. تحاول «الحلقات التالية» المقاربة بين الاتجاهين السابقين (نوعًا ما)، عبر التداخل بين ما هو «فقهي» (خصوصًا عندما يُرجح أبناء التيار آراءً بعينها، من دون سواها)، وبين ما هو «سياسي»، بشقيه: «النظري» (ترجيح آراء الغلو، والتشدد). و«التنفيذي» (حمل السلاح، نموذجًا).


ما بين تكفير الحاكم، والحُكم بـ«كُفرية» نظام الدولة الحديثة (السياسي، والقانوني)؛ يُمثل التربص بالخصوم الفكريين لتيار «الإسلام السياسي» وإرهابهم [عبر مزاعم «ارتدادهم» عن الدين]، الضلع «الثالث» فى مثلث «عملية التكفير» برمتها.. إذ يسعى تيار «الإسلام السياسي» (بشكل عام) إلى «توظيف» تلك النقطة، من الناحية السياسية [فى خضم مساعيه للوصول والاستحواذ على «السلطة»] بشكل دءوب.. وذلك؛ لإخراس أى محاولات «انتقادية» يُمكن لها أن تنال من «الأساطير الاعتقادية» المؤسسة لقناعات التيار.
قُتل الدكتور «فرج فودة» بفتوى من هذا النوع، بعد أن أجهز على العديد من تلك الأساطير، خلال مناظرته ومرشد جماعة الإخوان الأسبق «مأمون الهضيبي» بمعرض القاهرة للكتاب (!).. حدثت المناظرة فى بدايات العام 1992م.. وبعدها بنحو 4 شهور [8 يونيو من العام نفسه]؛ كان أن توقف شابان بـ«دراجة بخارية» أمام المفكر الراحل أثناء خروجه من مكتبه [فى شارع أسماء فهمى بمدينة نصر]؛ لتنهال - بعد ذلك - الطلاقات من «بندقية آلية» كانت فى حيازة أحدهما (تبين، فيما بعد، انتماؤهما إلى «الجماعة الإسلامية»).
.. وداخل قاعة المحكمة سأل «القاضي» القاتل:
- لماذا قتلت فرج فودة (؟)
= لأنه كافر
- ومن أى كتبه عرفت أنه كافر (؟)
= أنا لم اقرأ كتبه.
- كيف (؟)
= أنا لا اقرأ و لا أكتب (!)
■ ■ ■
لم تكن إجابات القاتل «الجاهل»، الذى استحلَّ دم فودة ، بفتوى من شيخه «عمر عبدالرحمن» [صاحب فتوى إهدار دم الرئيس السادات، أيضًا] هى الصدمة الوحيدة بالقضية.. فدفاع المتهمين طلب استدعاء الشيخ الإخوانى «محمد الغزالي» (أحد محاورى فودة، أيضًا، بالمناظرة نفسها) للشهادة.. فراح «الشيخ الغزالي» يغزل على المنوال، الذى غزل عليه الأمير الضرير «عمر عبد الرحمن».. وقال إن فرج فودة «مرتد».. والمرتد يجب قتله (!)
سألوه: أليس هذا من حق أولى الأمر (؟).. فقال: يجوز لأفراد الأمة «إقامة الحدود» عند تعطيلها، وإن كان هذا يُعد افتئاتًا على حق السلطة (!).. قالوا له: وما عقوبة الافتئات (؟).. فأجاب: ليس له عقوبة (!)
وبعد اغتيال «فودة» بنحو ثلاث سنوات؛ رُفعت دعوى للتفريق بين الدكتور «نصر حامد أبوزيد» - أستاذ البلاغة والدراسات الإسلامية بجامعة القاهرة – وزوجته.. بزعم «ردّته» و«إلحاده» (!).. ورغم أن قضية «نصر أبوزيد» دفعت الدولة لإجراء تعديلات تشريعية (القانون رقم 3 لسنة 1996م)؛ لتقييد «دعاوى الحسبة» ووقفها على «النيابة العامة» وحدها [لا على آحاد الناس، كما كان يحدث].. إلا أنّ الأمر لم ينه سيل «فتاوى الارتداد» المسلط على رقاب «خصوم التيار»، أو كل من يحاول إعمال عقله [دينيًّا].. إذ وضع أمام النيابة العامة، فى وقت لاحق، العديد من البلاغات المشابهة (بعضها تم حفظه، وبعضها تم التحقيق فيه).. وهى بلاغات طالت العديد من الكتاب، والصحفيين، والباحثين (!)
وفى سياق «الاستثمار السياسي» لأحكام الردة الموجودة بين بطون «المصنفات الفقهية»؛ كان أن تصدى جُل أبناء تيار الإسلام السياسى (1)، للعديد من الاجتهاد «المعاصرة» حول تلك «الأحكام» (فضلاً عن القطاع «التقليدي» من رجال الدين)؛ لغلق «باب الاجتهاد» فى وجه طارقيه (حتى فى وجه ذوى الاعتبار منهم)؛ إذ من شأن هذا الأمر أن يُجرد منظرى «الإسلام السياسي» من أحد أسلحتهم «الرئيسية» التى يشهرونها فى وجه خصومهم (!).. وفيما كان بين ثنايا المنتج [التراثي] ما يدعم وجهة نظرهم الفقهية.. كان من بين ثنايا «التراث» نفسه، ما يهدم هذا الأمر (جملة وتفصيلاً).
■ ■ ■
فوفقًا للمتعارف عليه بين المذاهب السُّنية [المشهورة]؛ فإن «الشافعية»، و«المالكية»، [ورأى عند «الحنابلة»] يرون أنه يتعين على «الإمام» أن يُؤجل «المرتد» ثلاثة أيام، ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك؛ لأن ارتداد المسلم عن دينه [يكون عن «شُبهة» غالبًا].. فلا بد من مدة يُمكنه التأمل فيها؛ ليتبين الحق.. واستند تقدير «الشافعية» لتلك المدة (أي: الأيام الثلاثة) على واقعة «موسى» (عليه السلام)، و«العبد الصالح» الواردة فى سورة الكهف { قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي}.. فلما كانت «الثالثة» قال له: { قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّى عُذْرًا} (2).
كما استند هذا الفريق، أيضًا، إلى ما أورده الإمام مالك فى «المُوَطَّأ» عن أنّ رجلًا أتى «عمر بن الخطاب» من قِبل «أبى موسى الأشعري»، فقال له: «هل عندكم من مُغْرَبةٍ خبر؟» (3).. قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه. فقال: ماذا فعلتم به؟.. قال: قربناه فضربنا عنقه.. قال عمر: «هَلَّا طبّقتم عليه بيتًا – ثلاثًا – وأطعمتوه كل يوم رغيفًا (4)، واستتبتموه لعله يتوب ويرجع إلى أمر الله.. اللهم إنى لم آمر، ولم أحضر، ولم أرض إذ بلغني» (5).
وفيما كان «الجمهور» على استتابة المرتد [قيل: مرة، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: شهرًا]؛ ورد عن «الشوكاني» قولٌ مماثل.. إذ قال: «اختلف القائلون بالاستتابة: هل يكتفى بالمرة؟، أو لابد من ثلاثٍ، وهل الثلاث فى مجلس واحدٍ، أو فى ثلاثة أيام، ونقل «ابن بطَّال» عن أمير المؤمنين «على بن أبى طالب» أنه يُستتاب شهرًا.. كما ورد عن «إبراهيم النخعي» (6)، أنه يُستتاب [أبدًا] (7)، ولا يُقتل.. ووافقه «سفيان الثوري»، وقال: «هذا الذى نأخذ به» (8).
بينما كان لـ«الأحناف» تفصيلٌ فى الأمر، وتفريق بين (الرجل والمرأة) فى شأن الردة؛ إذ قالوا: يُعرض عليه (أي: على الرجل المرتد) الإسلام؛ فإن كان له شُبهة أبداها، كُشفت عنه.. وعَرضُ الإسلام عندهم مُستحب [غير واجب]؛ لأن الدعوة بلغته ابتداءً.. فإن طلب الإمهال؛ يُستحب أن يؤجله القاضى ثلاثة أيام، ويُحبس ثلاثة أيام.. فإن أسلم بعدها، وإلا قُتل؛ إذ إنه [حربي] لا محالة (9).. وعلى هذا؛ علّق «محمد بن الحسن الشيباني» (صاحب أبى حنيفة) على الرواية الواردة بالمُوطّأ قائلاً: إن شاء الإمام أخر «المرتد» ثلاثًا؛ إن طمع فى توبته أو سأله ذلك المرتد، وإن لم يطمع فى ذلك ولم يسأله المرتد، فقتله.. فلا بأس بذلك كله (10).. أما المرأة «المُرتدة» فلا يجب قتلها؛ لأن النبى (ص) نهى عن قتل النساء، ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة، إذ إنّ تعجيلها يُخل بمعنى الابتلاء (!).. كما أن السر الناجز للحكم [هو الحراب].. و«بنية النساء» لا تصلح لهذا الأمر، بخلاف الرجال.. والقتل بالردة؛ لدفع شر حدا به، لا جزاءً على «الكُفر».. لأن جزاءه أعظم من ذلك عند الله تعالى (11).
■ ■ ■
وإلى جانب ما تثيره إشكالية «أحكام الردة» [فقهيًّا]، من «اعتراضات» معاصرة تضع المنتج «التراثي» فى سياقه التاريخي، وتراجعه تأسيسًا على المبدأ الاعتقادى «الحاكم»: {لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (12)؛ فإن مناقشة الاستدلالات الفقهية [السابقة] يثير بدوره العديد من التساؤلات، والملاحظات:
أولاً: يبدو تقدير «الشافعية» لمدة استتابة المرتد بثلاثة أيام (رغم ما يحمله الاستدلال القرآني، من لطافة) خارج السياق، نوعًا ما.. إذ إنّ واقعة الاستدلال (موسى، والعبد الصالح)، تأسست فى جانبيها على «فضيلتين» تُرشّد إحداهما الأخرى.. الأولى: [نهم المعرفة وإعمال العقل] (تساؤلات النبى موسي)، والثانية: [الصبر، والتريث فى المعرفة، إذ لا تؤخذ الأمور بالظواهر] (تحذيرات العبد الصالح).. ومن ثمَّ.. لا يتقاطع الاستدلال مع «أحكام الرّدة» سوى فى شِق «الشُّبهات» التى يُمكن أن يؤسس عليها «المرتد» دوافعه للارتداد.. فهل هذا ما كان يقصده «الشافعية» بالفعل؟
ثانيًا: يبدو – كذلك – تقدير الأيام الثلاثة (أيام الاستتابة)، تأسيسًا على ما ذكره الإمام «مالك» فى [الموطأ]، اجتهادًا خاصًا من «عمر بن الخطاب»؛ إذ خالفه فى تقدير مدة الاستتابة – على سبيل المثال – أبو الحسن «على بن أبى طالب» وتوسع فيها وجعلها شهرًا.. بينما قال «إبراهيم النخعي» (وهو من التابعين) - وأيده من تابعى التابعين «سفيان الثوري» - إنه يُستتاب [أبدًا]، ولا يُقتل.. وبين الاجتهادات التقديرية الثلاثة (ثلاثة أيام/ شهرًا/ أبدًا)، يبدو أن الأمر كان رهنًا للتقديرات [الظرفية] فى حقب تاريخية مختلفة.. ومن ثمّ.. يطرح هذا الأمر تساؤل: هل كانت عقوبة الردة «حدًّا شرعيًّا»، بالفعل، أم «حُكمًا تدبيريًّا» للقائمين على شئون الدولة؟
ثالثًا: يعكس تفريق «الأحناف» بين المرأة والرجل فى العقوبة، تأسيسًا على أن الرجل [المرتد] يمتلك مقومات «المحاربة» على خلاف المرأة [المرتدة]، العديد من مقومات الإجهاز على وصف «الحد الشرعي»، لا دعمه.. إذ لا فرق فى «الحدود الشرعية» [الثابتة] بين الرجل والمرأة.. وهو ما يطرح، بدوره، جملة من «التساؤلات» ذات الوجاهة: فأى «ردة» هى التى توجب القتل؟.. هل هى «الردة» المؤسسة على إنكار «الأصول الاعتقادية»، من دون محاربة؟.. أم «الردة» التى يتبعها خروج على «النظام العام» والانضمام لصفوف الأعداء (الحرابة)؟
رابعًا: على امتداد فترات زمنية متنوعة، كانت تمثل جملة التساؤلات السابقة العديد من الاجتهادات «المتشككة» فى اعتبار «قتل المرتد» حدًّا شرعيًّا.. وهى اجتهادات كانت تتراوح بين «التصريح» تارة.. أو «التلميح» تارة أخرى؛ خوفًا من الاصطدام، بشكلٍ مباشر، مع «المنتج الفقهي» المستقر – نسبيًا – بين بطون الكتب [التراثية].. إذ سبق وأن أغلق نفرٌ من الفقهاء باب الحديث فى هذه القضية بدعوى «الإجماع»، رغم عدم تحققه (!).. وذلك؛ ليحولوا دون الالتفات إلى مخالفة «عمر بن الخطاب»، و«إبراهيم النخعي»، و«سفيان الثوري»، وغيرهم من ناحية، وليغلقوا الباب دون تفكير بأية مراجعة لهذا الحد من المتأخرين (13).
خامسًا: فيما لم تصح أغلب أحاديث «قتل المرتد» من حيث السند؛ كان ثمة طرح جريء عرضه – بقوة – شيخ الأزهر الراحل «محمود شلتوت»، حول الحديث «الوحيد» الذى سلم – نوعًا ما – من الجرح، ويقوى به «القائلون بالقتل» موقفهم؛ إذ قال الإمام: الاعتداء على الدين بالردة يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو ارتكاب ما يدل على الاستخفاف والتكذيب.. والذى جاء فى القرآن عن هذه الجريمة، هو قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِى الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (14).. والآية كما ترى لا تتضمن أكثر من حكم بحبوط العمل والجزاء الأخروى بالخلود فى النار.. أما العقاب الدنيوى لهذه الجناية، وهو القتل، فيثبته الفقهاء بحديث يروى عن «ابن عباس»، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): «من بدّل دينه فاقتلوه» (15).. وقد تناول العلماء هذا الحديث بالبحث من جهات:
■ هل المراد من بدّل دينه من المسلمين فقط، أو هو يشمل من تنصر بعد أن كان يهوديًا مثلاً؟
■ وهل يشمل هذا العموم الرجل والمرأة، فتقتل إذا ارتدّت، كما يُقتل إذا ارتّد، أو هو خاص بالرجل، والمرأة لا تقتل بالردة؟
■ وهل يُقتل المرتد فورًا، أو يُستتاب؟
■ وهل للاستتابة أجل، أو لا أجل لها.. فيستتاب أبدًا؟ (16).
وأضاف: قد يتغير «وجه النظر» فى المسألة، إذا لوحظ أنّ كثيرًا من العلماء يرى [أنّ الحدود لا تثبت بحديث الآحاد]، وأنّ «الكُفر» بنفسه ليس مبيحًا للدم، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين، والعدوان عليهم، ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر «القرآن الكريم» فى كثير من الآيات تأبى الإكراه على الدين (17).
سادسًا: ثمة ملاحظات ذكية، أوردها مسقطو وصف «الحد الشرعي» عن عقوبة المرتد، استنادًا إلى قاعدة: [لا شفاعة فى الحدود]، إذ أثبت العديد من الوقائع التاريخية أن النبى (ص) عفا عن بعضٍ ممن أهدر دماءهم (بعد ردّتهم) فى أوقات سابقة، بعد توسط كبار الصحابة (واقعة تدخل «عثمان بن عفان» للعفو عن أخيه من الرضاع «عبدالله بن أبى سرح» نموذجًا).. وما قبله الرسول [نفسه] فى صلح الحديبية من شرط قريش [بأن ما يأتيهم ممن مع محمد لن يردوه عليه]، رغم أنها ردة واضحة عن الإسلام.. ومن ثمَّ.. لا يُمكن فى ظل أوضاع مثل تلك أن يكون هناك – من حيث الأصل – حدٌ للردة بالقتل.
■ ■ ■
وفيما تُمثل «قضية الردة» نموذجًا [مثاليًا] عما يُمكن أن يصادفه المرء «مستقرًا» بين ثنايا الفقه «التقليدي»، ويتم التعامل معه باعتباره [مقدسًا] لا يقبل المناقشة أو الاجتهاد [على خلاف الحقيقة]؛ فإن معركة «تجديد الخطاب الديني» – إذا أردنا النجاح فيها فعليًا – يجب أن تبدأ بمواجهة ما يُريد أن يُسَوّقه البعض باعتباره «مُسلمات عقائدية» غير قابلة للنظر.. وهى معركة «صعبة»، وتحتاج إلى جرأة شديدة [فى الحقيقة]، وجهد مُنظم من القائمين على شأن الاجتهاد؛ لتحريك المياه الراكدة.. إذ من بين العديد من «دساتير التكفير» ما يبرر أفعاله بما تتضمنه حشايا «المنتج التراثي».
.. ونكمل لاحقًا


    هوامش

(1)- كان ثمة محاولات «فردية» من بعض المحسوبين على التيار – فى وقت متأخر – للتصدى لتلك الأحكام من الناحية الفقهية، إلا أنها لم تسلم – مثل غيرها – من المواجهات الإجهاضية.
(2)- الكهف [الآية: 76].
(3)- [مُغربة].. بوزن اسم الفاعل، أي: حالة تحمل خبرًا من بعيد.
(4)- قال «ابن القاسم» فى المدونة: ليس العمل على قول عمر، ولكن يُطعم ما يقوت ويكفيه، ولا يجوع.
(5)- عبدالرحمن الجزيري، «الفقه على المذاهب الأربعة» [الجزء الخامس]، (القاهرة: دار البيان العربي)، ص: 373- 374. (بتصرف).
(6)- «إبراهيم النخعي»، تابعى «فقيه» [ثقة]، وهو ابن شقيقة الصحابى «الأسود بن يزيد النخعي».. روى الحديث عن خاله (أي: الأسود النخعي)، وعلقمة بن قيس، وعبيدة السلماني، وأبو زرعة البجلي، وشريح القاضي، وخاله عبد الرحمن بن يزيد، وهمام بن الحارث، وغيرهم.
(7)- السيد سابق، «فقه السنة» [الجزء الثاني]، (القاهرة: الفتح للإعلام العربي، 1997م)، ص: 306.
(8)- عبدالرازق الصنعاني، «المصنف» (10/164، وما بعدها).. وابن حزم الأندلسي، «المحلى» (11/189، وما بعدها).
(9)- الفقه على المذاهب الأربعة [مصدر سابق]، ص: 373 (بتصرف).
(10)- مُوطَّأ الإمام مالك (رواية محمد بن الحسن الشيباني)، [الطبعة السابعة]، (القاهرة: وزارة الأوقاف المصرية – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 2001م)، ص: 283.
(11)- الفقه على المذاهب الأربعة [مصدر سابق]، ص: 374- 375 (بتصرف).
(12)- البقرة [الآية: 256].
(13)- طه جابر العلواني، «لا إكراه فى الدين»، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2003م)، ص: 40.
(14)- البقرة [الآية: 217].
(15)- صحيح البخارى [باب: لا يعذب بعذاب الله]، و[باب: حكم المرتد والمرتدة].. ولبعض فقهاء «المذهب الجعفري» (بعيدًا عن موقف الشيعة من «عكرمة» راوى الحديث عن ابن عباس) مناقشات عقلية وملاحظات على متن الحديث.. ولمزيد من التفاصيل، يُمكن مراجعة: الشيخ «حسين الخشن»، (الفقه الجنائى فى الإسلام: الردة نموذجًا)، ص 216، وما بعدها.
(16)- محمود شلتوت، «الإسلام عقيدة وشريعة» [الطبعة 18]، (القاهرة: دار الشروق، 2001م).
(17)- المصدر نفسه.