الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

«نوح الحمام» .. رؤية مسرحية عن الثأر وخرافات الجنوب

«نوح الحمام» .. رؤية مسرحية عن الثأر وخرافات الجنوب
«نوح الحمام» .. رؤية مسرحية عن الثأر وخرافات الجنوب




بعد توقف دام شهرا كاملا أعيد من جديد مع حلول عيد الفطر المبارك العرض المسرحى «نوح الحمام» للمخرج أكرم مصطفى بقاعة صلاح عبد الصبور أمس الخميس على مسرح الطليعة؛ «نوح الحمام» عمل من نوع خاص يشبه فى تناوله لموضوعات الثأر وعادات وتقاليد وخرافات الصعيد شكل الدراما التليفزيونية، عندما تدخل قاعة العرض تتورط فى الأحداث بالجلوس على كنب فرش بمفارش المنازل الفقيرة كأنك جزء من تلك البيئة الصعيدية القاسية، هذه القاعة الصغيرة حولها فادى فوكيه مهندس الديكور إلى أحد القرى والنجوع بإحدى المحافظات فى الصعيد «الجواني».
دراما عن الثأر والغياب صنعها المؤلف والمخرج أكرم مصطفى عن شخصية حقيقية التقى بها فى الواقع ولم تدم علاقتهم طويلا لكنه قرر أن يصيغ منها ملحمة درامية قصيرة صنع بها اسطورة للحنين والخيال، رجل مجرم قوى عنيف لا يقدر على مواجهته أحد قتل ستة وهرب من حكم القضاء وعليه ثأر لأكثر من شخص من بينهم سلام الذى ينتظره عاقدا عزمه على الأخذ بثأر أخيه منه، لكن سلام فى حواره مع الأخرس يتردد ويتخيل دائما ماذا لو حضر الرجل وجاء إلى القرية هل سيقدر على مواجهته وقتله أم أنه سيتراجع مثل غيره، ويخشى مواجهة هذا الرجل العنيد الذى لا يقدر عليه أحد؛ هكذا نرى طوال العرض شخصية غائبة عن الحاضرين، حاضر فى خيال محبيه ومريديه فقط، نراه من وجهة نظر أمه التى تنتظر عودته بفارغ الصبر وزوجته التى يحرقها الشوق والحنين إليه، نراها تفعل كل شيء وتدعو أن يبتليه الله بعشقها كما ابتليت به، ثم عشيقته التى تروى اساطير عن فحولته وعلاقتهم السرية ففى وقت من الأوقات كان بديلا عن زوجها، تتقاطع المشاهد فى شكل المونتاج السينمائى بين ثلاث جماعات حوارات الأم والزوجة والعشيقة، ثم حوار سلام والأخرس وأخيرا حوار الضابط الذى فصل من عمله وينتظر عودته ويحكى ايضا عن تكليفه بالقبض عليه ورجل البار الذى يستمع إلى حكايات وروايات الضابط السكران.
له سلطان طاغ على الجميع، سلطته وسطوته التى تخشاها وتتحاشها وسلطان المشاعر الذى يتمثل مرة فى ذكورته على زوجته وعشيقته وأمه التى تعتبره الابن الذى لم تنجب مثله امرأة ثم سلطة البطش والطغيان التى يمثلها على كل من سلام والأخرس ورجل الشرطة فالجميع يريد عودته والبعض يخشى مواجهته ويتردد فى تصور وتخيل مدى قدرته واستعداده لهذه المواجهة، بين الحب ومشاعر الخوف والإنتقام والكراهية والبكاء منه وعليه؛ إجتمع هؤلاء للحديث عن هذا الرجل الأسطورى الغائب الذى لا يعود حتى نهاية العرض وبالتالى رآه الجمهور بخيال أعدائه ومحبيه حتى اشتاق الحاضرون مثلهم تماما لرجوعه ورؤيته، فمن يكون هذا الذى حير الجميع؟!
       اتحد عنصرى الإضاءة والديكور كى ينتجا معا حالة من الحميمية والدفء لأجواء هذا العمل حيث لعبت الإضاءة دور كبير فى نقل مشاعر الدفء بالمنزل الذى غاب عنه هذا الرجل ويشتاق أهل بيته لعودة  دفئه إليه من جديد فى حوارات النساء الثلاث، بتفاوت ما يمثل لهن من مشاعر سواء عاطفية أو جسدية ففى هذا المنزل الضيق الصغير اجتمعت غيرة وحقد وحنين نسائه إليه، غيرة زوجته وكيد عشيقته وفرحة أمه بعراكهما، ثم ننتقل إلى مشهد الطريق الذى جلس فيه سلام الثائر مع صديقه الأخرس وهما يحكيان عن اسطورة الرجل القوى الذى لا يقدر عليه أحد، ومشهد ثالث يجمع الضابط السكير فى حالة مكاشفة عن أخطائه وندمه عليها واعترافه لرجل البار بأنه اضاع كل شيء من يده، حالة مسرحية استثنائية انتقلت بنا إلى بيئة الصعيد التى تبدو من مظهرها مريرة وشديدة الالتحام والارتباط ببعضها البعض فهذا المجتمع المنعزل الصغير الذى يغرق فى خرافاته وعاداته وتقاليده البالية لديه ايضا من التشابك والتلاحم ما يجعل الجميع فى حالة مكاشفة ليس هناك سر لأحد الكل يعلم فضائح جاره حتى ولو لم يفصح عنها.
اتقن المخرج أكرم مصطفى صناعة وحبك هذا العمل صغير الحجم عميق الأثر والمضمون على كل المستويات التمثيل الإخراج والكتابة، بمهارة شديدة استطاع أن يتداخل ويلعب كل هذه الأدوار دون الإخلال بأى منها، فمن غير المعتاد أن ينضبط ايقاع عمل مسرحى ومخرجه ممثلا فيه، انضبط الإيقاع وانسجم العمل انسجاما كبيرا وكأن المخرج لا يقف أمامنا بالقاعة بل يراقب خارجها يقف موجها ومحاسبا ممثليه فأحاطت روحه المكان باحتواء العرض من الخارج كمخرج أولا تشعر بتعلمياته وإشاراته دون أن تسمعها ومؤلف ثم ممثل صعيدى من الدرجة الأولى، وعلى عكس هذا النوع من الأعمال التى تحتوى معظمها على اخطاء فى نطق اللهجة الصعيدية أنطق المخرج ممثليه لهجة الصعيد «الجواني» كما ينبغى أن تكون فخرج عملا مسرحيا مكتمل الأركان متماسك منضبط الإيقاع الذى دار بين المشاهد مثل العزف على إحدى الآلات الوترية، كما كان للممثلين دور كبير فى معايشة الجمهور وتشغيل خيالهم عما غاب عنهم، كانت مفاجأة العرض الفنانة سوسن ربيع فى دور نجيبة أم وطنى والتى عادت بعد غياب طويل قدمت شخصية الأم بطبيعية وسلاسة وانفعالات وأداء ممثلة سينمائية يروى وجهها ما عجز عن نطقه لسانها وتقول عيناها كل شيء أخفته سرا فى قلبها خاصة بمشهد إجتماع الزوجة بالعشيقة؛ ممثلة السهل الممتنع تلقائية من الصعب تكرارها خاصة على المسرح وفى مواجهة الجمهور مثلت ربيع شخصيتها دون جهد يذكر، شاركها فى اكتمال متعة الأداء والتمثيل أكرم مصطفى فى دور سلام والذى بدا ممثلا من العيار الثقيل وأحمد مجد الدين فى دور الأخرس قدمه بسلاسة واتقان كبير، وكذلك الفنان ياسر عزت الضابط السكير وإبراهيم البيه فى دور رجل البار، ثم إيناس المصرى فى دور العشيقة صفية، ونشوى حسن الزوجة وديدة، ديكور فادى فوكيه، وإضاءة عمرو عبد الله وملابس شيماء محمود، كل هؤلاء إجتمعوا لصناعة «نوح الحمام» الذى جسد بكاء القلوب المكتوم على غائب خرج ولن يعود.