الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

طعنات أخوية




من واشنطن:
عشية بدء المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قرأت تصريحا للرئيس أبومازن دعا فيه الشعب الفلسطيني ألا يحول الصراع علي إنهاء الاحتلال إلي خلاف علي شكل المفاوضات. هذا كلام في محله وجاء في وقته.. لكنه مع كثير من الأسف لن يكون مسموعا.. فقد احترف الفلسطينيون.. ونحن العرب جميعا منهم.. الانشغال بالشكل والاستغراق في الضيق من الأمور.. حتي وجدنا أنفسنا اليوم في هذه الحالة المذرية.. حقنا تسرب من بين أصابعنا كما لو كنا نقبض علي الماء.

انظر إلي تاريخ إسرائيل.. أختلف أو أرفض.. أستنكرهم.. أدنهم.. قل فيهم أكثر مما قال الإمام مالك في الخمر.. ضع عليهم كل ما ينبغي من صفات لابد من إطلاقها علي الظالمين المحتلين المستلبين القاهرين العنصريين.. ولكن قل لنفسك.. ولي أيضا: هل حدثت هذه المشكلات الصورية بين الإسرائيليين في المائة عام الماضية.. وهم يستلبون منا أرضنا؟.. طبعا لا.

التاريخ هو الملاذ.. لايمكن أن تمتليء بالقدرة علي الحكم الصحيح بدون أن تعبيء نفسك بتفاصيل الزمن الماضي.. الإسرائيليون منذ نشوء الحركة الصهيوينة الساعية إلي إقامة دولة إسرائيلية.. وحين كانت كلمة إسرائيلي لاتحمل دلالة المواطنة في دولة موجودة.. وحين كان يشار إليهم علي أنهم يهود مشتتون.. يحاولون إقناع قوي الاستعمار بأن يستلبوا لهم وطناً في أي موقع علي الأرض.. هؤلاء لم يختلفوا كما اختلفنا.. ولم تقض عليهم تصوراتهم المتناقضة.. ولم تنسف أهدافهم الاختلافات الأيديولوجية.. بل تمكنوا في مائة عام من أن يصلوا بنا إلي الحالة التي نحن عليها.. يسيطرون علي أرض كانت تحت أيدينا.. ويفاوضوننا هل يعطوننا ملليمترات منها.. ويعيدون لنا ملليمترات أخري.. مع شديد الأسف.

بدءاً من مؤتمرات هيرتزل.. ونشوء الحركة الصهيونية.. والسعي إلي تأسيس دولة إسرائيلية في شمال الجزيرة العربية وجنوب سيناء.. ثم السعي إلي دولة في العريش.. ودولة في ليبيا وعلي حدود السلوم.. ودولة في أنجولا أو أوغندا.. وحلم الدولة في الأرجنتين.. بل واحتمالات تأسيسها في قبرص تمهيداً للقفز علي فلسطين.. إلي أن صدر وعد بلفور.. في هذه الفتره الزمنية وما بعدها مضي اليهود نحو العمل علي تحقيق الهدف القائم علي غبن الآخرين.. اختلفوا.. لكنهم لم يحيدوا عن الطريق.. وظفوا التباين من أجل أن يصلوا إلي ما يريدون.. تعددت منظماتهم وتصارعت كياناتهم.. ولكنهم حولوا كل هذا إلي طاقة تصب في النهاية في مصلحة اليهود.. التي هي علي حساب مصالحنا.

في الفترة الأولي وقبل صدور وعد بلفور تحركوا في كل اتجاه.. بل تنافسوا في التحرك.. ومن المدهش أن دعايتهم خدعت الكثيرين بما في ذلك أنها انطلت علي الزعيم الوطني المصري مصطفي كامل.. حتي أنه أرسل خطابا إلي هيرتزل يقارن فيه بين عدالة القضية المصرية والتخلص من الاحتلال.. والقضية الصهيونية الساعية إلي تأسيس وطن لليهود.. كان مليارديرات اليهود يملئون العالم صخبا حول المسعي الصهيوني.. لايوجد يهودي قابل أي مسئول في أي مكان في العالم إلا وطرح عليه فكرة أو رأياً يصب في اتجاه استيلاب أرضنا.. وقد نجح الذين نعاديهم.. غير أننا لم نتعلم من الخصوم بعد كل هذا الوقت.. ألم يكن علينا أن نكتسب أي خبرة من هؤلاء؟؟

كان اليهود يلتهمون أرضنا قبل أن تتأسس إسرائيل.. لكننا لم نثر ثورتنا الأولي إلا في عام 1929 (ثورة البراق).. ولم نتحرك جوهريا في اتجاه الاعتراض علي النهب المنظم للأرض الفلسطينية إلا في سنة 1936.. وفي عام 1947 رفضنا قرار التقسيم.. هذا الذي لايمكن حتي أن نحلم به الآن.. وأعلنت إسرائيل بعد ذلك بعام.. ومن ثم بدأنا قصتنا التاريخية مع الخلاف العظيم فيما بيننا.. أنلقي بهم في البحر.. أم نتركهم يضيعون في الفيافي علي البر.. أنقتلهم بالكلاشينكوف.. وجها لوجه.. أم أن علينا أن نصل إلي دولة فلسطين عبر وضع السكاكين علي رقاب المضيفات في الطائرات الأوروبية ونحن نصرخ: الطائرة مخطوفة.. أينا أرقي وطنية: هذا الذي يناضل في خندق داخل الأرض.. أم هذا الذي يقول إنه يناضل في أوروبا ويعود ليلا إلي فندق حيث يبيت ليلته.. وهكذا.

وقد استمرأنا الخلاف.. إلي أن قسمنا أرضنا بأيدينا.. وجاء فريق منا ومن أبناء جلدتنا وذهب بغزة بعيداً عن الضفة.. وبدلاً من أن يحارب إسرائيل صار يحارب أشقاءه.. ويا لها من مفارقة مروعة.

إن نتانياهو، تختلف أو تتفق معه، يذهب الي المفاوضات المباشرة، بينما كل من في إسرائيل يخدم علي أهدافه.. حتي لو كانت هناك تصريحات نادرة تناقضه.. الاختلاف يدعمه.. وهو يوظفه من أجل تحقيق أهداف كيان ينتمي إليه.. قام علي قهر الآخرين وظلمهم.. أما نحن فإن فينا، رغم عدالة قضيتنا، من يختلفون مع الرئيس الفلسطيني بطريقة تكسره.. وتحطمه.. وتضعفه.. وتخونه.. وتقدمه علي أنه بائع جديد للأرض.. حيث في النهاية عليه أن يدخل إلي غرفة التفاوض مصحوبا باتهامات كافية لنسف أي شخص تاريخيا.. ثم يطلبون منه فيما بعد أن يحقق إنجازا!!

ضوء الأمل الوحيد في هذا السياق.. هو منهج مصر.. فهي تقف معضدة ومساندة للمفاوض الفلسطيني الذي يتلقي كل يوم طعنات من إخوته.. تبقيه قادراً علي أن يكمل الطريق وأن تضمد جراح الطعنات التي يتلقاها من أهل بيته.. ولأنها تفعل ذلك فإنهم يوجهون إليها طعنات أخري.
الموقع الإلكترونى : www.abkamal.net

البريد الإلكترونى : [email protected]