الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

مجزأة بن ثور السدوسى.. «قاتل المائة»




المنهج الإلهي - في إصلاح البشرية وهدايتها إلي طريق الحق - يعتمد علي وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلي سلوك عملي، فكان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلي حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلي الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»! (2)، وقال صلي الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم.  
هاهم أولاء الأبطال من جند الله ينفضون عنهم غبار القادسية جذلين فرحين بما آتاهم الله من نصر... مغتبطين بما كتب لإخوانهم الشهداء من أجر... متشوقين إلى معركة أخرى تكون أختاً للقادسية فى روعتها و جلالها... متربصين أن يأتيهم أمر خليفة رسول الله عمر بن الخطاب بمواصلة الجهاد لاجتثاث العرش الكسروى من جذوره.
لم يطل تشوق الغر الميامين وتشوفهم كثيراً.
فها هو ذا رسول الفاروق يقدم من المدينة إلى الكوفة و معه أمر من الخليفة لواليها أبى موسى الأشعرى بالمضى بعسكره والالتقاء مع جند المسلمين القادمين من البصرة، والانطلاق معا إلى الأهواز لتتبع الهرمزان والقضاء عليه وتحرير مدينة تستر درة التاج الكسروى، ولؤلؤة بلاد فارس.
وقد جاء فى الأمر الذى وجهه الخليفة لأبى موسى أن يصطحب معه الفارس الباسل «مجزأة بن ثور السدوسى» سيد بنى بكر وأميرهم المطاع.
صدع أبوموسى الأشعرى بأمر خليفة المسلمين، فعبأ جيشه، وجعل على ميسرته «مجزأة بن ثور السدوسى»، وانضم إلى جيوش المسلمين المقبلة من البصرة،  ومضوا معاً غزاة فى سبيل الله.
فما زالوا يحررون المدن، ويطهرون المعاقل، والهرمزان يفر من أمامهم من مكان إلى آخر حتى بلغ مدينة «تستر»، واحتمى بحماها.
كانت «تستر» التى انحاز إليها «الهرمزان» من أجمل مدن الفرس جمالاً، وأبهاها طبيعة، وأقواها تحصيناً.
وهى إلى ذلك مدينة عريقة ضاربة فى أغوار التاريخ، مبنية على مرتفع من الأرض على شكل فرس، يسقيها نهر كبير يدعى بنهر «دجيل».
وفوقها أحواض ونوافير بناها الملك «سابور»، ليرفع إليها ماء النهر من خلال أنفاق حفرها تحت الأرض.
وأحواض «تستر» وأنفاقها هى من عجائب البناء، شيدت بالحجارة الضخمة المحكمة، ودعِّمت بأعمدة الحديد الصلبة، وبلطت هى وأنفاقها بالرصاص.
وحول «تستر» سور كبير عال يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، قال المؤرخون عنه:
إنه أول وأعظم سور بنى على ظهر الأرض.
ثم حفر «الهرمزان» حول السور خندقاً عظيماً يتعذر اجتيازه، وحشد وراءه خيرة جنود فارس.
عسكرت جيوش المسلمين حول خندق «تستر» وظلت ثمانية عشر شهراً لا تستطيع اجتيازه.
وخاضت مع جيوس «الفرس» خلال تلك المدة الطويلة ثمانين معركة.
وكانت كل معركة من هذه المعارك تبدأ بالمبارزة بين فرسان الفريقين، ثم تتحول إلى حرب ضارية ضروس.
وقد أبلى مجزأة بن ثور فى هذه المبارزات بلاءً أذهل العقول، وأدهش الأعداء والأصدقاء فى وقت معاً.
فقد تمكن من قتل مائة من شجعان العدو مبارزة، فأصبح اسمه يثير الرعب فى صفوف الفرس، ويبعث النخوة والعزة فى صدور المسلمين.
وعند ذلك عرف الذين لم يكونوا قد عرفوه من قبل لم حرص أمير المؤمنين على أن يكون هذا البطل الباسل فى عداد الجيش الغازى.
وفى آخر معركة من تلك المعارك الثمانين حمل المسلمون على عدوهم حملة باسلة صادقة فأخلى الفرس لهم الجسور المنصوبة فوق الخندق، ولاذوا بالمدينة، وأغلقوا عليهم أبواب حصنها المنيع.
انتقل المسلمون بعد هذا الصبر الطويل من حال سيئة إلى أخرى أشد سوءًا، فقد أخذ الفرس يمطرونهم من أعالى الأبراج بسهامهم الصائبة...
وجعلوا يدلون من فوق الأسوار سلاسل من الحديد، فى نهاية كل سلسلة كلاليب متوهجة من شدة ما حميت بالنار.
فإذا رام أحد جنود المسلمين تسلق السور أو الاقتراب منه، أنشبوها فيه وجذبوه إليهم، فيحترق جسده، ويتساقط لحمه، ويقضى عليه.
اشتد الكرب على المسلمين، وأخذوا يسألون الله بقلوب ضارعة خاشعة أن يفرج عنهم، وينصرهم على عدوه وعدوهم.
وبينما كان أبوموسى الأشعرى يتأمل سور «تستر» العظيم، يائساً من اقتحامه، سقط أمامه سهم قُذِفَ نحوه من فوق السور، فنظر فيه فإذا فيه رسالة تقول: لقد وثقت بكم معشر المسلمين، وإنى أستأمنكم على نفسى ومالى وأهلى ومن تبعنى، ولكم على أن أدلكم على منفذ تنفذون منه إلى المدينة.
فكتب أبوموسى أماناً لصاحب السهم, وقذفه إليه بالسهم.
فاستوثق الرجل من أمان المسلمين لما عرف عنها من الصدق بالوعد والوفاء بالعهد، وتسلل إليهم تحت جناح الظلام، وأفضى لأبى موسى بحقيقة أمره فقال:
نحن من سادات القوم، وقد قتل «الهرمزان» أخى الأكبر، وتعدى على ماله وأهله، وأضمر لى الشر فى صدره حتى ما عدت آمنة على نفسى وأولادى...
فآثرت عدلكم على ظلمه، ووفاءكم على غدره، وعزمت على أن أدلكم على منفذ خفى تنفذون منه إلى «تستر»...
فأعطنى إنساناً يتحلى بالجرأة والعقل، ويكون ممن يتقنون السباحة حتى أرشده إلى الطريق.
استدعى أبوموسى الأشعرى مجزأة بن ثور السدوسى، وأسر إليه بالأمر وقال:
أعنَّى برجل من قومك له عقل وحزم، وقدرة على السباحة.
فقال مجزأة: اجعلنى ذلك الرجل أيها الأمير.
فقال له أبوموسى: إذا كنت قد شئت, فعلى بركة الله.
ثم أوصاه أن يحفظ الطريق، و أن يعرف موضع الباب، و أن يحدد مكان «الهرمزان»، وأن يتثبت من شخصه، وألا يحدث أمراً غير ذلك.
مضى مجزأة بن ثور تحت جنح الظلام مع دليله الفارسى، فأدخله فى نفق تحت الأرض يصل بين النهر والمدينة.
فكان النفق يتسع تارة حتى يتمكن من الخوض فى مائه وهو ماشٍ على قدميه، ويضيق تارة أخرى حتى يحمله على السباحة حملا.
وكان يتشعب ويتعرج مرة، ويستقيم مرة ثانية...
وهكذا حتى بلغ به المنفذ الذى ينفذ منه إلى المدينة، وأراه «الهرمزان» قاتل أخيه، والمكان الذى يتحصن فيه.
فلما رأى مجزأة «الهرمزان»، همَّ بأن يرديه بسهم فى نحره، لكنه مالبث أن تذكر وصية أبى موسى له بألا يحدث أمرا، فكبح جماح هذه الرغبة فى نفسه و عاد من حيث جاء قبل بزوغ الفجر.
أعد أبو موسى ثلاثمائة من أشجع جند المسلمين قلباً، وأشدهم جلدا وصبراً، وأقدرهم على العوم وأمَّر عليهم مجزأة بن ثور وودَّعهم وأوصاهم... وجعل التكبير علامة على دعوة جند المسلمين لاقتحام المدينة.
أمر مجزأة رجاله أن يتخففوا من ملابسهم ما استطاعوا حتى لا تحمل من الماء ما يثقلهم.
وحذرهم من أن يأخذوا معهم غير سيوفهم... وأوصاهم أن يشدوها على أجسادهم تحت الثياب...
ومضى بهم فى آخر الثلث الأول من الليل.
ظل مجزأه بن ثور وجنده البواسل نحوا من ساعتين يصارعون عقبات هذا النفق الخطير، فيصرعونها تارة وتصرعهم تارة أخرى.
ولما بلغوا المنفذ المؤدى إلى المدينة وجد مجزأة أن النفق قد ابتلع مائتين وعشرين رجلاً من رجاله، وأبقى له ثمانين...
وما أن وطأت أقدام مجزأة و صحبه أرض المدينة حتى جردوا سيوفهم، وانقضوا على حماة الحصن، فأغمدوها فى صدورهم.
ثم وثبوا إلى الأبواب وفتحوها وهم يكبرون.
فتلاقى تكبيرهم من الداخل مع تكبير إخوانهم من الخارج...
وتدفق المسلمون على المدينة عند الفجر...
ودارت بينهم وبين أعداء الله رحى معركة ضروس قلما شهد تاريخ الحروب مثلها هولاً ورهبةً وكثرة فى القتلى.
وفيما كانت المعركة قائمة على قدم وساق أبصر مجزأة بن ثور «الهرمزان» فى ساحها، فاتجه نحوه، وساوره بالسيف، فما لبث أن ابتلعه موج المتقاتلين وأخفاه عن ناظريه... ثم إنه بدا له مرة أخرى فاندفع نحوه وحمل عليه...
وتصاول مجزأة والهرمزان بسيفيهما فضرب كل منهما صاحبه ضربة قاضية، فارتد سيف مجزأة، وأصاب سيف الهرمزان...
فخر البطل الكميُّ الباسل صريعا على أرض المعركة، وعينه قريرة بما حقق الله على يديه.
وواصل جند المسلمين القتال، حتى كتب الله لهم النصر، ووقع الهرمزان فى أيديهم أسيراً.
انطلق المبشرون إلى المدينة المنورة يزفون إلى الفاروق بشائر الفتح.
ويسوقون أمامهم الهرمزان وعلى كتفيه حلته الموشاة بخيوط الذهب ليراه الخليفة.
وكان المبشرون يحملون مع ذلك تعزية حارة للخليفة بفارسه الباسل مجزأة بن ثور.