الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

عرابى أول زعيم طالب بالدستور والبرلمان وإقامة الجمهورية!




لقد صدر مئات وآلاف الكتب والأبحاث والدراسات عن الثورة العرابية منذ البداية وحتى النهاية وتضمنت آلاف القصص والتفاصيل السياسية والعسكرية التى تراوحت بين الإشادة والهجوم!!لكن سطراً واحداً كتبه الأستاذ الكبير «محمد زكى عبدالقادر» يقول فيه: «أهمية عرابى فى التاريخ القومى لمصر إنه أول زعيم فلاح رفع صوته فى شجاعة وجرأة ضد الحكام من الاتراك والشراكسة؟ وأول زعيم فى تاريخ مصر الحديث طالب بالدستور والبرلمان فدل على أنه من هذه الناحية رائد له قيمته واعتباره.
ومنذ هذا التاريخ وكل انتفاضة مصرية تلت بعد ذلك لم تهمل المطالبة بحكم الشورى والبرلمان.
نعم الدستور والبرلمان كانا على رأس  مطالب الثورة العرابية بل إن أستاذ الجيل «أحمد لطفى السيد» وهو من خصوم «عرابى» لم يجد بدا من الاعتراف قائلا: لولا عرابى لم يكن الدستور.
ورغم عدد من الملاحظات التى يوردها المؤرخ الكبير «عبدالرحمن الرافعى» عن الثورة العرابية لكنه يؤكد على القول: «تولى عرابى زعامة الجيش  وزعامة الأمة فى فترة من أهم فترات التاريخ المصرى الحديث، فهو جدير بأن يوفى حقه من الدراسة والتدوين، وعندى أن لسيرته منذ تولى الزعامة مرحلتين: فالأولى هى المرحلة الموفقة فى تاريخ الثورة العرابية إذ ظفرت فيها الأمة بالنظام الدستورى وتقرير حقوقها السياسية وكان «لعرابى» الفضل الاول فى هذا الظفر القومى.
أما المرحلة الثانية التى يعنيها الأستاذ «الرافعى» فبدأت عقب تنحية «شريف» باشا حيث أخذت الثورة تتعثر فى خطاها.
فى زمن ملوك مصر وحكامها منذ فشل الثورة العرابية وحتى قيام ثورة 23 يوليو 1952 كان الكلام عن «أحمد عرابى» جريمة والاشادة به خطيئة ومحاولة انصافه هى سابع المستحيلات.
لقد صادر الملك «فاروق» كتاب المؤرخ «عبدالرحمن الرافعى» وعنوانه «الزعيم الثائر أحمد عرابى» وأفرجت عنه الثورة بعد قيامها.
وقبل ثلاثة أسابيع من قيام ثورة 23 يوليو 1952 كان الأستاذ عباس محمود العقاد قد أصدرت له مؤسسة أخبار اليوم كتابه «ضرب الاسكندرية فى 11 يوليو» وقد اختار له العقاد هذا الاسم الغريب حتى لا تلتفت الرقابة الى محتواه عن الثورة العرابية لكنه صودر بعد ستة أيام فقط من طرحه فى الاسواق ولم تعد طباعته الا بعد ذلك.
ولعل ما أزعج الرقابة وقتها هو قول «عباس العقاد» بالحرف الواحد:
سميت الثورة التى أعقبها الاحتلال البريطانى باسم «الثورة العرابية» نسبة الى زعيمها «أحمد عرابى» بطل الحرية والدستور فى عصره وهى تسمية صادقة وتسمية مطابقة لأن زعامة عرابى لتلك الثورة كانت من مشيئة القدر التى لا محيد عنها فلا حيلة فيها لعرابى نفسه ولا لأحد من أشياعه وأتباعه.
ويضيف العقاد قائلا: لم يكن فى الجيش المصرى من هو أقدر من عرابى ولا أعرف منه بمطالبه وأحق منه بعرضها والدفاع عنها وكانت حالة الجيش فى ذلك العصر تلخص حالة الأمة المصرية فى جملتها.
وفى هذا السياق أيضا كان هناك الكاتب والمؤرخ الشهير الاستاذ محمود الخفيف صاحب أهم وأعمق كتاب عن الثورة العرابية وهو أحمد عرابى الزعيم المفترى عليه والذى صدر عام 1947وبسبب ما احتواه من دفاع مجيد وصادق عن عرابى وثورته الديمقراطية تعرض لغضب الملك فاروق وغضب الإنجليز معا عندما كشف خيانة الخديو توفيق للثورة وتحالفه مع الإنجليز ثم مؤامرة الإنجليز أنفسهم على مجريات الثورة.
يقول الأستاذ «محمود الخفيف»: «طالب عرابى بالدستور فكان فى طلبه هذا زعيم ثورة تقوم على أجل المبادئ التى شاعت فى أوروبا فى القرن التاسع عشر والتى عدها المؤرخون والناس من أعظم خطوات البشرية صوب الرقى والكمال، فكيف يكون مع ذلك داعية فوضى واضطراب؟!
لقد كثرت فى أوروبا المواقف التى يشبهها فى معناها ومرماها هذا الموقف فسجلتها الشعوب فى ثبت مفاخرها وعدتها من أيامه المشهودة التى تمجد كل عام ذكراها.
وتم لعرابى وأنصاره ما أرادوا فى غير عنف يشوه حركتهم أو ينقص من جلالها كما يحدث فى أشباهها من الحركات.
لقد كان القصر أمام الجيش خلوا من أية قوة فروعيت حرمته أحسن مراعاة وروعى كذلك مقام الخديو فلم يخرج أمامه هذا الجندى الثائر عن طوره بل قد تمالك نفسه فترجل وأدى التحية وأغمد سيفه ثم ذهب بعد ذلك فأعرب له عن ولائه وشكره باسم الأمة إذا أجابها إلى ما طلبت على لسانه.
نعم كان عرابى يتحدث باسم الأمة!
لقد كان القناصل الأجانب  فى مصر أول من أشار إلى هذه الحقيقة ويكتب قنصل النمسا الى حكومته قائلا: الثورة ليست عسكرية بل إنها ثورة شعبية!!
ويؤكد قنصل فرنسا: أن عرابى هو رأس تلك الأمة وأن «توفيق» الخديو نكرة ولا وزن له! وأن ما حدث هو حركة وطنية وثورة سلمية!
أما اللورد كرومر الاستعمارى العتيد فيقول: إن جنود عرابى كانت قوة وطنية من أبناء تلك الارض التى تعمل على التخلص من العدو الاجنبى.
أما الاخطر فهو اعتراف «كرومر» بإنشاء دولة عربية فى مصر أو الشام تقوم على مثل تلك الأسس الدستورية من شأنه أن يؤدى الى تعرض الدولة لتلك السياسة التى تقضى عليها ولذا كان كل اقتراح من هذا النوع «عن الدستور المصرى» يقاوم بمنتهى الشدة!
ويكتب «يعقوب صنوع» اليهودى فى مجلته الشهيرة «أبونضارة» التى ناصرت وأيدت عرابى فيقول: أقدم الليث «العرابى» ـ نائب الجيش ومن خلفه الوغى وأشبال القتال يريدون قهر دولة الاستبداد ورد صولة الفساد وإحياء الوطن بالحرية وهيئة شورية «من الشورى» فراغ لهم المستبد الاكبر «الخديو توفيق» المفسد الأول روغان الثعلب وانخفض لديهم انخفاض رأس الأرنب.
ويضيف يعقوب صنوع فى صراحة وجرأة: تبين لى أن أفكار جمهور من الوطنيين خلع الامة للحاكم أعنى الخديو وقومه وجعل مصر حكومة جمهورية تجرى بمقتضى قانون الجمهوريات الحرة وتنتزع عموم الأجانب من دوائر حكومتها وتستمر فى اصلاح شئونها إننا نرى المصريين اليوم يجمعهم قول واحد وهو خلع الخديو الحالى.
وهو نفس ما أكدته السفارة الانجليزية فى تقرير لها فى أول يونيو 1882 بقولها: مازال الخطر ماثلا بقيام انقلاب عسكرى ويشير تقرير آخر الى القول يصح أن يقال أن «عرابى» بك هو فى واقع الأمر الحاكم للبلاد ان كل الأهالى مع عرابى بك منذ عاد إلى السلطة.
ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن أحداث مصر كان قنصل أمريكا فى مصر وقتها هو «سيمون وولف» وكان من الأصدقاء الحميمين الى «عرابى» وفى نوفمبر سنة 1881 كتب تقريرا الى الادارة الأمريكية جاء فيه قوله إن القائمقام أحمد عرابى وطنى متطرف ويميل الى استخدام العنف عند الضرورة ليخلص مصر من الاجانب.
وطالب القنصل من إدارته السماح له بالتدخل لإقناع عرابى بتأجيل ثورته المسلحة مبررا ذلك بقوله: كان يمكن أن تكون هناك ثورة أخرى لولا أننى على علاقة طيبة مع عرابى!! وقد أوضحت له عدم كفاية استعداداته وان الانجليز قوة أكبر من أن يستهين بها وأنه من الأفضل له تعليم شعبه ليصل الى مستوى أعلى من التمدين، وحينئذ سيأتى اليوم الذى يمكنه فيه التخلص مما تطلق عليه اسم العبودية.
وعقب لقاء آخر مع عرابى كتب «سيمون وولف» تقريراً جاء فيه إن عرابى الذى صار وزيرا للحربية قد خفف من موقفه العدائى ولكنه مازال ينادى بأن تتولى مصر شئونها الداخلية بنفسها وإن كان لا يستطيع إلغاء الالتزامات الدولية.
لقد أصبح عرابى فى نظرهم «حامى حمى البلاد المصرية».
لم تكن ثورة عرابى والجيش والشعب بكل طوائفه مفاجأة لأحد بل كان الكل يتوقعها الاجانب قبل المصريين والغوغاء قبل المثقفين والنساء قبل الرجال!! فقد كانت ثورة مصرية رفعت شعار «مصر للمصريين»!!
وبعد 48 ساعة من وقفة عرابى ضد الخديو فى ميدان عابدين أرسل الجناب العالى الخديو الى الباب العالى بتركيا فى 11 سبتمبر 1881 جاء فيها:
تسألوننى فى برقيتكم السامية التى تشرفت بوصولها إلى اليوم عن مقاصد الذين قاموا بحركة العصيان، ونوايا الذين حرضوهم عليه؟ وما هى الاسباب التى أدت الى تسمم أفكار الجيش بهذه الدرجة؟! فأقول إنه كما سبق تفصيلا فى تحريراتى «كتاباتى» المرفوعة الى مقاكم السامى فى البريد السابق، أن التذمر وتغلغل روح الثورة فى صفوف الجيش ليس وليد  يومه بل هو داء قديم!! ونتيجة ظروف وأعمال فى العهود السابقة، غير أنه ظهر للعيان الآن فقط ويرجع منشأ ذلك الى الأسباب التالية:
لماذا يحكم مصر العنصر التركى وغيره من العناصر الاجنبية العديدة؟!
ولماذا لا يكون زمام الامور بمصر فى أيد مصرية؟
ولم تتسرب ملايين الجنيهات الى الخارج تسديدا لديون الأجانب؟
إلى غير ذلك من الافكار والآراء الطائشة التى دخلت صفوف الجيش هذا ومروجو هذه الافكار السيئة والقائمون بها هم أميرالاى يدعى «أحمد عرابى» وعدة ضباط من الجيش يشاركونه فى الفكرة والغاية.
فى نفس الوقت كان جميع القناصل الأجانب فى مصر ـ عدا انجلترا وفرنسا يتوافدون على منزل أحمد عرابى يطالبونه بتأمين رعاياهم من غضبة المصريين، وعندما أجابهم عرابى بأنه «استعفى» ـ استقال ـ من النظارة ـ الوزارة ولم يعد له صفة عسكرية تخول له القيم بهذه المسئولية كانت إجابة القناصل تلخص حقيقة مكان ومكانة عرابى فى مصر وقتها فقد قالوا له: إن الجيش لا يخالف إرادتك وأنت رئيس الحركة الوطنية فلا نأمن غيرك على رعايانا وأنفسنا.
وجاء فى تقارير قنصل النمسا بالاسكندرية قوله: إن لعرابى سلطاناً كبيراً ليس فقط فى الجيش بل وفى بقية طبقات الشعب، فالعلماء وغيرهم من الوجهاء يشايعونه بما لديه من إرادة وقوة إن «عرابى» كان يمثل الامة كلها.
وكان الشيخ محمد عبده قد أكد فى مذكراته على هذا المعنى بصراحة حيث إن عرابى قد صرح إليهم بالقول: إن القوة فى يدنا والعلماء والأعيان ومشايخ العربان يعضدوننا ولا مندوحة للخديو عن إجابة طلبنا فإن لم يفعل خلعناه وأقمنا حكومة جمهورية مستقلة.
وضمن وثائق الثورة العرابية وثيقة تشير إلى أن النية كانت معقودة على أن يكون عرابى رئيسا للجمهورية.
وتشير د.لطيفة سالم فى كتابها القوى الاجتماعية فى الثورة العرابية الى خطاب أرسله مأمور ضبطية القاهرة إلى عرابى يعبر له عن أن «ذهب بعض الناس أن بعد عزل الخديو ستطلب الاهالى تنصيب حكومة جمهورية يكون رئيسها سعادة أحمد باشا عرابى»!
أما محمود سامى البارودى باشا رئيس الوزراء والشاعر أيضا فيقول: منذ بداية حركتنا هدفنا تحويل مصر الى جمهورية صغيرة مثل سويسرا ـ نفس رأى عرابى ـ وحينئذ تنضم إليها سوريا ثم يتبعها الحجاز ولكننا وجدنا بعض العلماء لم يتقبلوا ذلك فهم متأخرون عنا لكننا سنجعل مصر جمهورية قبل أن نموت ولنا كل الأمل فى ذلك.
ولعل من أغرب وأعجب ما فعلته الثورة العرابية أن انحاز لها أميرات الاسرة الحاكمة وكذلك الغوغاء والدهماء أو البلطجية بلغة هذه الأيام!
يروى مستر «برودلى» كبير محامى عرابى وهو الإنجليزى الجنسية فى كتابة «كيف دافعنا عن عرابى وصحبه» ترجمة عبدالحميد سليم كتب يقول: لم يحدث فى أى جزء من أجزاء العالم أن خططت المرأة لكى تمارس المزيد من النفوذ السياسى الفعلى مثلما فعلت المرأة فى الشرق، ولعله لم يكن للمرأة نفوذ له قوته كدافع فى شئون الدولة مثلما كان نفوذ المرأة فى مصر، إذ فى الحريم المصرى وجد «عرابى» بعضا من أكثر أشياعه وطنية ونفوذا الغالبية العظمى من سيدات مصر تؤيدها بحرارة وليس سرا أن أعلنت أميرات الاسرة الخديوية «باستثناء أم الخديو وزوجته» تعاطفهن القوى مع عرابى الهدايا المحانية من الخيول التى وهبتها للجيش أم الخديو إسماعيل المسنة وابنته الأميرة «جميلة هانم».
ويشير «برودلى» المحامى وأقرب الاصدقاء الإنجليز الى عرابى إلى خطاب تلقاه من الأميرة «إنجى» أرملة الخديو السابق سعيد باشا تشكره على ما يقوم به دفاعا عن عرابى ثم يشير الى لقاء معها تحدثت فيه عن المشاعر الحقيقية للأسرة الخديوية فقالت: إن كل فرد منا يتعاطف سراً من بادئ الامر مع «عرابى» لأننا كنا نعرف انه لا يسعى لخير المصريين وتشير الى الاجتماعات التى عقدها الأمراء حيث استقر الرأى بالاجماع بتفويض عرابى باستئناف الحرب لقد رأينا فى عرابى محررا ولم يعرف حماسنا له أى حدود إننا جميعا بعثنا له بخطابات وتلغراف بتهنئته وتشجيعه!!
ومن أغرب ما روته الأميرة «إنجى» لبرودلى هو لقد كتبت الاميرة الى عرابى خطابا غاية فى الحماقة إذ عرضت عليه فيه أن تتزوجه باعتباره منقذا لمصر، فكان كل ما قاله لها عرابى أن تهتم بشئونها وأن تبقى فى دارها.
ويرى برودلى فى دفاعه الرائع عن عرابى أن الحركة التى تزعمها عرابى كانت النتيجة الصادقة لمطامح المصريين التى تكمل اتفاقا قائما بين الرأى العام وتصرفاته كزعيم شعبى أن مصر كلها كانت مع «عرابى».
ويرصد المؤرخ مخيائيل بك شاروييم الذى عاصر تلك الفترة وما جرى فيها فيقول: إن الناس كانت تطلق على عرابى عبارة «الباشا بتاعنا» وبالنسبة للزوجات فكانت اذا وضعت حبلى صبيا سمته عرابى أو أحمد عرابى واشتد تعلق الناس به شدة لم تكن تخطر لأحد على بال ثم يصف هذا المشهد الفريد قائلا: خرجت الغوغاء من الحارات وانتشرت فى الأطراف واختلطت بالجنود فى جلبة وصياح وتزاحموا على القلاع والحصون يريدون معاونة الجند فكان إذا هم الجندى بتصويب مدفعه نحو سفن الانجليز هللوا وصاحوا ونادوا يا أهل بيت رسول الله «يا شيخنا يا أباصيرى».
الله ينصرك يا عرابى بذلك الدعاء كان كل مصرى ومصرية يدعون لعرابى الذى أصبح «مجدد أمر الأمة سعادة أحمد باشا عرابى بل وأصبح الدعاء فى صلاة الجمعة اللهم انصر عرابى بجيش المسلمين».