الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«ريش».. وذاكرة الإبداع

«ريش».. وذاكرة الإبداع
«ريش».. وذاكرة الإبداع




كتب: عاطف بشاى

هنا معبد تقدم به القرابين إلى البطل الراحل الذى أصبح رمزاً للآمال الضائعة آمال الفقراء والمعزولين هنا أيضاً تنقض شلالات السخط على بطل النصر والسلام.. النصر ينكشف عن لعبه والسلام عن «تسليم».
أما العبارات السابقة فهى لأستاذنا الكبير «نجيب محفوظ» والتى وردت فى روايته البديعة «يوم قتل الزعيم» وأما المكان الذى يقصده فهو مقهى «ريش» التاريخى بميدان «طلعت حرب» بوسط البلد الذى كان يقيم فيه أديب «نوبل» ندوته الأسبوعية الشهيرة والتى كانت تضم أبرز أدباء وفنانين وشعراء  ونقاد العصر بالإضافة إلى الثوريين والشباب من محبى الثقافة والفنون.
وفى مقهى ريش ومنذ بداية السبعينيات من القرن الماضى عرفت الكبار والصغار العظام والصعاليك قادة الرأى ومفكرى العصر وعقول الأمة والمثقفين  الحقيقيين وأنصافهم وأرباعهم الأدباء الموهوبين والشعراء الفحول النقاد الجهابزة  والمزيفين العمالقة والأقزام متمردى العصر وكهنة التحريم  الأتقياء والملاحده الثوار والخونة والأدعياء والطبالين والانتهازيين.
وكما تأثرت بآراء وأفكار مبدعين عباقرة كنجيب محفوظ ويوسف إدريس وإبراهيم أصلان وأمل دنقل  ونجيب سرور الذى كان يملأ الدنيا فناً وتوهجاً وصخباً وجنوناً فى هذه الأيام ويخوض معارك أدبية وفكرية وسياسية نارية وجسورة مستخدماً قلماً حاداً لاذعاً كأسنة الرماح  يهتك به أستاراً من الزيف والكذب والنفاق  ويسخر فى هجاء قاس من نماذج بشرية شوهاء، وكان يدير عينيه فى الجالسين حوله فى المقهى من بعض المثقفين الأصدقاء وينهال عليهم بالهجاء المرير الذى كان يصور من خلاله حالة الفصام الفكرى التى يعانى منها من يكذبون ويخادعون ويتلونون ويتحولون ويرتدون الأقنعة ويحتالون.
وقد ظهر هذا الهجاء المرير بأبدع ما يكون فى كتابه «بروتوكولات حكماء ريش».
أقول وكما تأثرت بآراء وأفكار المبدعين الكبار فقد شدتنى مثلما شدت نجيب سرور النماذج البشرية الغريبة التى كنت أشاهدها فى كل ساعات الليل والنهار بالمقهى وكأنها استبدلته بالمنزل منهم نموذج عجيب لرجل ذى عينين حادتين وملامح متقلصة بالانفعال يسيطر عليها السخط والتعالى والأمتعاض كاره لكل الأشياء الموجودة حوله حتى أنى خلته يمقت أيضاً الجماد ممثلاً فى المنضدة التى يجلس إليها  وكوب الماء الذى يشرب منه ومطفأة السجائر التى يوأد فيها لفافات تبغه.
وقد رأيته يصيح مرة فى د. يوسف إدريس الذى كنت أجالسه فجأة ودون مقدمات بحدة وعدوانية بالغة مرددًا: لقد قرأت كل أعمالك وأشهد أن قصةه واحدة من قصص (فلان) أهم من تاريخك كله وكانت معركة هائلة.
هذا الرجل كان يتهم المثقفين الجالسين بالمقهى جميعهم بالتخاذل والجبن بل بالتواطؤ مع السلطه القمعية الفاشية بدلاً من الثورة عليها وتمر الأيام ليخبرنى أحد العارفين بخبايا الأمور بحكم منصبه الهام أن هذا الرجل ليس سوى عميل مباحث يكتب التقارير ضد المثقفين اليساريين الذين يتم اعتقالهم تباعاً بناء على تلك التقارير.
ومن متابعتى لتلك الشخصية وغيرها استوحيت البناء الدرامى للفيلم التليفزيونى «فوزية البرجوازية» الذى قمت بكتابة السيناريو والحوار له وأخرجه إبراهيم الشقنقيرى وبطولة صلاح السعدنى وإسعاد يونس وذلك فى أوائل الثمانينيات وأحدث الفيلم ضجة كبيرة من ردود الأفعال بين المثقفين وحقق نجاحاً جماهيرياً واضحاً وصار الناس فى الشارع المصرى يتنابزون بتعبيرات  كثيرة وردت فى حوار الفيلم من نوعية «يابورجوازى يا متعفن – اخرس يا يمينى يا رجعى – اسكت يا ديماجوجى يا عديم الأيديولوجية – يا امبريالى يا عميل».
لكنه أغضب بشكل ملموس كل المنتمين إلى اليسار بجميع أطيافهم وكل المتمترسين بمقهى «ريش» وشنوا ضد الفيلم وضدى حملة شعواء واتهمنى كتابهم ونقادهم بتلك الاتهامات الشائعة والجاهزة لديهم من خيانه مزرية للتوجهات التقدمية المذهبية  وعمالة منحطة لقوى الرجعية الفكرية وتواطؤ رخيص مع السلطة الفاشية وانبطاح ذميم لاستراتيجية التآمر ضد المشروع القومى لتحالف الكتلة الثورية النهضوية فى مواجهة أعداء التنوير السياسى والعقائدية الهجيلية الجدلية.
وصرت منبوذاً بينهم يتأففون عن التحدث معى ويتجنبون لقائى وحرضت مناضلة «حنجورية» الرفاق ضدى فرفضوا مجرد مصافحتى بعد أن وشى بى «صلاح السعدنى» وسرب معلومه مفادها أنى أقصدها بشخصية عنايات التى جسدتها إسعاد يونس  بل كاد أحدهم يضربنى لولا تدخل عامل البوفيه بأتيليه الفنانين والذى حال دونه ودون أن يفتك بى مؤكداً له:
- ده لا يمينى ولا يسارى .. دة قبطى أورثوذوكسى.
 أما عمنا محمود السعدنى فقد غضب غضباً جامحاً وعنف أخاه لقبوله تجسيد دور عبدالواحد المثقف اليسارى الرعديد الذى يخشى شرف الاعتقال ويتهم زوجته «عنايات» اليسارية المريبة بخيانتها الأيديولوجية له بتجنيد السلطة لها لتلعب دوراً مباحثياً بمراقبة تحركات عبد الواحد ونشاطه السياسى فقد اعتبر عمنا السعدنى أن الفيلم يهين اليسار ورموزه.. ولم يقبل فكرة أن عبد الواحد ليس سوى دعى أفاق من هؤلاء الذين كانوا يتمسحون بمثقفى اليسار الحقيقيين فى جلساتهم بمقهى «ريش».
المهم أن الأستاذ توعدنا – السعدنى الصغير وأنا- بأن يمسح بنا البلاط على صفحات المصور .. فأصابنى الذعر  من أن يذبحنى بقلمه الصاعق الباتر وأنا  ما زلت فى أول الطريق. لكن الأيام مرت ولم يكتب الأستاذ شيئاً وعلمت من صلاح السعدنى أنه لطيبة قلبه أشفق على وعلى مستقبلى الفنى من الضياع تحت وطأة قلمه الحاد فيتراجع عن الكتابه بل أنه شملنى بكرمه الحاتمى المعروف ودعانى إلى الغداء الذى شمل فتة الكوارع وهبر اللحم الأحمر الذى يراه «سيد الطعام».
أما «ريش» العريق فقد أوصد أخيراً أبوابه  وطوى ذكرياته داخله وإن بقيت فى عقولنا وأرواحنا فالموت الذى غيب مجدى عبد الملاك صاحب المقهى وحارسه الأمين وراعيه الجميل لن يغيب عن ذاكرتنا.