الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عزة رشاد: الكتابة معشوقة متعنتة وتشابك المسارات وتقاطع المصائر وَلَعى

عزة رشاد: الكتابة معشوقة متعنتة وتشابك المسارات وتقاطع المصائر وَلَعى
عزة رشاد: الكتابة معشوقة متعنتة وتشابك المسارات وتقاطع المصائر وَلَعى




حوار - رانيا هلال

بتضافر بين الفصحى والعامية حاكت لنا الروائية عزة رشاد روايتها الأحدث «شجرة اللبخ» لتنبش بحرفية ودقة عن أسرار كل شخصية فى ضوء شغفها بالهم الإنسانى وأثره على مفردات حياتنا بكل مجالاتها، ومع ما يحمله لنا التاريخ من عبر وعظات غاصت فى بحره الكاتبة لتقف عند بعض الفترات التاريخية الهامة فى التاريخ المصرى .. حاورناها لنعرف منها أكثر عن روايتها وعن تلك الحقب التى اختارتها وكيف تناولتها.


■ ما سر اختيارك لاسم «شجرة اللبخ»؟
- بهاء لافت تسبغه شجرة اللبخ على المكان الذى تُستزرع فيه، كونها شجرة ضخمة ظليلة، فوحها جميل كعبير «الجنة»، فحسم هذا اختيارى لها للتعبير عن أن ما تحسبه جنة ربما يخفى عفنًا وفسادًا، وتواءم دراميًا مع رغبة بعض الشخصيات بإخفاء طريقة موت البيه، والرغبة الأقوى باستمراره بعد موته لتحقيق منافع لأتباعه، هذا أحد مستويات القراءة فى مستوى آخر: اللبخ فصيل من «الألبيزيا» التى كانت تُزرع بأوروبا ومع النهضة التى دشنها الباشا «محمد على» راح البارزون من رجالات الأرستقراطية الزراعية يجلبونها من الخارج ويستزرعونها بأراضيهم، فكانت أحد تعبيرات تَوقهم للتحديث، المتجلى كذلك فى طرز العمارة..إلخ، لكن هل التوق وحده كافٍ؟ وهل ينجح شيء فى إخفاء المظالم؟!    
■ ما الذى ترينه مدفونا تحت شجرة اللبخ، ولا نعرفه؟
- فى عصر السماوات المفتوحة وثورة الاتصالات انتهت الخفايا، فكل جديد يصبح بغضون دقائق قديمًا، ومتاحًا للجميع، من جيولوجيا الأرض والفضاء، وحتى ألاعيب السياسة والتابوهات، ولهذا فالإدهاش التقليدى «الهش حقيقة» لا يستهويني؛ فتركت شجرة اللبخ تأخذنى لاكتشاف الخفى بالريف الذى طالما تصورناه كمستودع للنقاء..الخ، فوجدته يمور بالصراعات، بالإضافة لدواخل الشخصيات، والميكانيزمات التى تتعامل بها مع السلطة ورموزها، سواء: لتسوغها للآخرين وأحيانًا لنفسها، أو لتتعامل معها بتقديم التنازلات نظير بعض المصالح، أو لتواجهها، هذه الميكانيزمات تظهر أيضا هشاشة الولاء لرمز السلطة فبسرعة ينساه أتباعه ويستثمرون موته ليحققوا مكاسب جديدة.
- تمحورت رواية الشخصيات فى الفصول الثمانية؟ حول شخصية رضوان بك البلبيسي، ومع ذلك لم يحمل اسمه أى فصل، كيف تفسرين؟ وهل كان محورا زائفا طوال الوقت؟
دعينى أعترف بأن تكوين «رضوان» من أصواتٍ أو وجهات نظر عَشَرة وليس راوٍ واحد هو بالنسبة لى أكثر من خيار جمالي، فهو انحيازى لديمقراطية السرد ورفض الأحادية والسرد التلقيني، اكتفينا من السلطوية، وتوقعى للمتلقى الإيجابية بأن يصير الراوى الحادى عشر، ويكوِّن وجهة نظر مستقلة فى رضوان الذى عبّرت عنه شخصية رئيسية بأنه تَجلٍ للسلطة: سلطتيّ القمع: المحلية «الشرطي»، و«الاحتلال البريطاني»، وليس مجرد شخص، وكل شخصية كانت تبتعد عنه مهما تبتعد لكنها تعود إليه، وماتبتعد إلا لتقترب من الأشكال الأخرى للسلطة بمظالمها: كالسخرة، وإلقاء المعارضين بحملات الأوبئة والفيضانات، ولهذا ارتحت لوصف «شجرة اللبخ» بأنها خطاب تخيلى عن المقاومة والسلطة.
■ هل انتصرت الشخصيات على الهوامش المتاحة لها، أم قتلتها الهوامش؟
- فكرة النصر والهزيمة لم تعنيني، فأثناء الكتابة كنت مهتمة بالنبش لاكتشاف السر الشخصى لكلٍ من الشخصيات العَشرة، وهذا الشخصى ورطنى فى اجتراح العالم الخاص بكل شخصية: النفسى والفيزيقى، ثم الاجتماعى بإشكالياته، لمتابعة نمو الشخصية - إن بِسلاسة أم بِحدة- وتمرداتها، أو تجاوزها إياه أو تصالحها وإياه ضمن شروط، وبالتالى كان ثمة تطور للشخصيات وصل ببعضها إلى التمرد على الموقع التقليدي؛ وماحرصت عليه هو: خلو «شجرة اللبخ» تمامًا من الثرثرة والتفاصيل المجانية.
■ كيف استطعتِ الإمساك بالخط السردي، وفى نفس الوقت التلاعب بزمن الحكى بين الماضى والحاضر؟
- قال أحد الروائيين: «الرواية منافسة للآلهة فى الخَلق» فتحولت العبارة إلى «كليشيه» يردده الروائيون كتعبير مجازي، لكنه برأيى متكلف، وبالنسبة لى أفضل الإصغاء للمتلقين، ويمكننى فقط القول إننى أشعر بارتياح لأنى شيدتُ عالمًا أحسه القراء حقيقيًا وشخوصا اعتبروها حية، وذات حمولة إنسانية جلية، أما الخيط السردي، هذا التشابك بالمسارات وتقاطعات المصائر فهو وَلَعى الإبداعي، متعة ومعاناة أما حركية الزمن بين الماضى والحاضر فلم تكن قط تلاعبًا، ولا حيلة شكلية - وإلا لكنت استبدلتها بحيل أكثر تشويقًا وأقل عناء - بل كانت الحركية مسارًا تلقائيًا فرضه زخم عَشَر حيوات ثرية تفيض بالتناقضات، وبالأشواق والإحباطات، وبالاعتماد على تقنية التداعى الحر، قدمتهم كلهم شجرة اللبخ.
لماذا ملأ الحب كل هذه المساحة، دون أن يسبب السعادة لأحد من الشخصيات، إلا قليلا؟ ومن قال أن الحب طريق حتمى للسعادة!! أما لماذا ملأ «كل هذه المساحة؟ فلأنه نقيض السلطة، فالسلطة بالمجال العام تفرض إرادتها على ضحاياها وأقصى ما تتظاهر به هو دورها كراع، ولهذا فحين نختلف معها نثور لنغيرها، بالتظاهرات..إلخ، أما بالمجال الخاص فالسلطة تتدثر بعباءة الحب، فيحدث الالتباس فنحن نسعى، طويلًا، لتصحيح علاقاتنا بأحبائنا قبلما نفكر فى خلعهم، ودعينا نرى كم من المعاناة احتملتها الزوجة ريثما تكتشف الفرق بين الحب الحقيقى وحب التحكم! الذى لم يكن موجودا لدى رضوان وحده «أُوضح»، ودعينا نرى كم عذابات الابن المنقسم بين إرضاء والديه وتحقيق ذاته!
■ ما الذى نجحت ثورة1919 فى تحريكه داخل مجتمع القرية، أم تراها لم تفلح فى تحريك شيء؟  
- باعتبارى لست أستاذة بالتاريخ ولكن فقط روائية، فما لمحته مماجرى فى بر مصر1919 وعبّرتْ عنه «شجرة اللبخ»: أنها ثورة أُريد لها ألا تتجاوز مطلب التحرر الوطني، بينما بزغت أشواق الفلاحين لتحقيق حياة أكثر إنصافًا، فالثورة منحتهم الحق بالحلم الذى بدا قابلًا للتحقق بقوة الموقف الجماعى: إعلان استقلال جمهورية «زفتي» وغيرها، الذى دحرته السُلطات وأعوانها بعنف، فتسبب بتعميق عدم الثقة بالأرستقراطية، أما ان كانت ثورة1919 جعلتْ الفلاحين يقومون بغربلة للموروث فلا دليل لدى.
■ مدفن رضوان بك البلبيسى الذى تحول إلى مزار، هل هو إشارة إلى قدرة البشر -والمصريين بوجه خاص- على تحويل كل شيء إلى مقدس؟
- ربما يكون هذا صحيحًا بإحدى القراءات التى تتفهم أننا كمصريين ارتبطت حياتنا منذ بدء الخليقة بالزراعة «مياه النهر» وتطلّب تنظيم الرى سلطة مركزية «أبوية» تُرسخ وجودها بالمقدس.. إلى آخر هذا التصور الذى أوافق عليه، لكننى بنفس الوقت أخشى تضخيمه والمغالاة بتداعياته، فبقدر رفضى لتمجيد الذات «حضارة ستة آلاف عام..إلخ» الدالة على  خِواء الحاضر، فأنا أخشى النظرة لأنفسنا باعتبارنا استثناء وعيبا خلقيا مستحيلا علاجه، مايؤدى لاعتبار الديمقراطية مستحيلة بمجتمعاتنا ولتسويغ الديكتاتوريات، ولهذا أرحب بقراءة تفسرها باستغلال البعض للطقوس الدينية لتحقيق أغراض دنيوية أنانية، ومخادعة: تجعل البيه أحد الأولياء الصالحين، وهذا حدث لأغلب المجتمعات، وانتهى ببعضها، ولم ينتهِ ببعضها الآخر كما فى «شجرة اللبخ».
■ ما بين الاشتغال بالطب والكتابة الأدبية، كيف تصنعين التوازن بين هذه الأعباء؟
- الكتابة معشوقة متعنتة ولا تريد شريكًا، وهذا حقها، لولا الظروف، فاليومى يظلمها بانشغالات سارقة للوقت وللطاقة وضاغطة للأعصاب، ولطالما تمنيت، ككل المسكونين بالسرد، منحها 24 ساعة يوميًا «المستحيل».
■ ما الإضافة التى قدمتها هذه الرواية لتجربتك الأدبية، وكيف ترين مشروعاتك الأدبية القادمة؟
- فى «ذاكرة التيه» قدمت رحلة فتاة بحثًا عن الحب وعن الذات بمجال ضيق وسعته رؤيتها للعالم تأثيرًا وتأثرًا، فيما منحتنى شجرة اللبخ عالمًا لامحدودًا سواء الشخصيات: صراعاتها وتناقضاتها، ورغباتها الدفينة - وإن ظل توقهم للحب والحرية مشابهًا لشخصيات «ذاكرة التيه» وفق مقال مهم عن الروايتين - أو المكان: القرية والعاصمة، وكذلك: الزمان المنداح بأيام الباشا «محمد علي» مرورًا بثورة1919، ودستور23 وحتى قبيل الانقلاب عليه، كما طوّرتُ اللغة بتداخل الفصحى والعامية «الشديدة الفصاحة»، وطورت نبرتى لتلائم خصوصية كل شخصية؛ منحتنى شجرة اللبخ كذلك صلابة الوقوف وحدى فى اختياراتى الإبداعية وعدم الانسياق للرائج، ولحسن الطالع أتى التلقى «القراء بمختلف الأجيال، والنقاد المتخصصين»: ليضاعف ثقتى بخياراتى المستقبلية.