الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

التسامح من أجل الحياة

التسامح من أجل الحياة
التسامح من أجل الحياة




كتب: أحمد عبده طرابيك
تعد المنطقة العربية فى الوقت الراهن من أسوأ مناطق العالم من حيث عدم الاستقرار، والهشاشة السياسية والاجتماعية، بسبب الاحتراب والحروب الأهلية التى انتشرت كالهشيم فى مختلف أركان العالم العربى، من العراق شرقاً، وسورية ولبنان شمالاً، إلى اليمن والصومال جنوباً، وصولاً إلى ليبيا غرباً، تلك الصراعات التى بدأت على أسس سياسية، ثم ما لبثت أن تدخلت فيها العوامل العرقية والمذهبية لتؤجج نيرانها وتزيدها لهيباً واشتعالاً، حتى بدأ أبناء القطر الواحد يعيشون حالة من الاحتراب والتراشق أوصل المجتمع إلى حافة الهاوية فى بعضها، وإلى مستنقع الهاوية فى أقطار أخرى.
حالة السيولة الأمنية، والهشاشة الاجتماعية التى تعيشها المجتمعات العربية ما كان لها أن تصل إلى تلك المرحلة لولا الانحراف الكبير والابتعاد بشكل مبالغ فيه عن عادات وتقاليد وقيم المجتمع العربى الذى تميز منذ القدم بالتسامح والشهامة والكرم وقبول الآخر، فقامت على تلك الأرض بفضل ذلك التسامح والوحدة والألفة بين أبناء الأمة، حضارة عريقة مازالت آثارها شاهدة على عظمتها حتى الآن.
لقد اعتمد جوزيف ستالين سياسة التفرقة بين القوميات العرقية والإثنية المكونة للاتحاد السوفيتى السابق، فيما عرفت بسياسة «فرق تسد»، وخاصة فى المناطق التى تكثر فيها القوميات القوية فى دول آسيا الوسطي، وذلك بهدف جعل تلك القوميات أقلية ضعيفة غير موحد وسط القوميات الأخرى، الأمر الذى أوجد فى دول مثل أوزبكستان وكازاخستان وأذربيجان وتركمانستان خليطاً من القوميات والأقليات الدينية والعرقية تصل إلى مائة وثلاثين قومية فى الدولة الواحدة، مع وجود قوميات رئيسية فى كل دولة.  
استطاعت تلك الدول أن تحتضن كل ذلك الفسيفساء من القوميات المختلفة، وتعمل على إيجاد خليط متجانس من تلك القوميات، وتوظيف طاقاتهم وثقافاتهم المختلفة لخدمة الوطن الذى يعيشون فيه من خلال سياسات العدالة والحرية فى الاعتقاد والثقافة والفكر التى اتبعتها منذ استقلالها، يجمعهم قاسم مشترك هو الانتماء لوطن واحد، فأصبح كل فرد يشعر بأنه مواطن مثل باقى أبناء وطنه من القوميات الكبري، له حقوق وعليه واجبات مثل جميع الأفراد الآخرين، فهم جميعاً شركاء فى الوطن دون تمييز.
خلال سنوات الاستقلال التى لا تتجاوز ربع قرن من الزمان، أيقنت دول آسيا الوسطى أن بنيتها الاجتماعية قائمة على بركان من القوميات المختلفة، وأن أى شرارة متطايرة من هنا أو هناك فى فضاء تلك القوميات سوف يشعل ناراً لا تستطيع أى قوة أن تطفئ لهيبها، لذلك فقد قامت دساتيرها على أن المواطنة المتساوية المتسامحة هى أساس الحياة على تراب الوطن، والأهم من كل ذلك هو احترام ذلك الدستور، وتطبيق القانون على الجميع بكل حزم، وأن لا يكون هناك مجال لفتنة قومية أو عرقية، ولذلك استطاعت هذه الدول تجاوز مرحلة الاستقلال ومضاعفاتها والانطلاق نحو أفق جديدة، كما استطاعت خلال فترة وجيزة بعد الاستقلال أن تقيم أسساً لدول تسير بخطى واثقة نحو التقدم والازدهار.   
فى ظل النزاعات الدينية والمذهبية، والخلافات الفكرية والثقافية بين أبناء المجتمع، يغيب الوطن وهمومه، وتضيع قوى المجتمع وموارده وفى مقدمتها المورد البشري، أغلى وأثمن الموارد، ويسود التراشق والاحتراب الذى ينهك قوى المجتمع ويستنزف موارده، ويصبح الوطن طارداً لأبنائه، تحت وطأة الإحساس بالكراهية والعداء، فالتسامح الذى لا وجود له إلا من خلال مفهوم المواطنة المدنية، القائمة على أساس المساواة التامة فى الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين المنتمين إلى واقع طبيعى محايد، ونظراً لاختلال هذا المفهوم الطبيعى للمواطنة فى عالمنا العربي، أصبح هذا العالم يعيش حالة من الاستئصال والنفى المتبادل، بعدما ظلت تلك الحالة مخاصمة له، وغريبة عنه وعن أفكاره ومعتقداته وثقافته.
العالم العربى الذى تضم تركيبته الديموغرافية قوميات أكثر تجانس بخلاف الدول الأخري، وذلك بحكم الثقافة العربية التى انصهروا فيها على مر العقود والقرون، أصبحوا مطالبين اليوم أكثر من أى وقت مضى بالعودة إلى قيم المواطنة، وترسيخ مفهوم التسامح، وسمو فلسفة التنوير والسمو الفكرى بين مسلميه ومسيحييه، بين مذاهبه الدينية السنية والشيعية، بين قومياته العرقية وقبائله المختلفة، وبين تياراته الفكرية والثقافية، وبناء الوطن على أسس راسخة، حتى تصبح الأوطان واحات للنماء والرخاء والسلام الأهلى والاجتماعى».