الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

فتحى عبد السميع: أفكار تستعبدنا والواقع أكبر من صورته فى أعماقنا

فتحى عبد السميع: أفكار تستعبدنا والواقع أكبر من صورته فى أعماقنا
فتحى عبد السميع: أفكار تستعبدنا والواقع أكبر من صورته فى أعماقنا




كتبت ■ رانيا هلال
عندما يرى الإنسان مشهدا حماسيا أو مثيرا، تبرق ألوان هذا المشهد فى عينى الرائى. وعندما يكون هذا الإنسان مبدعا من نوع خاص أو بالأحرى شاعرا يكون لهذا المشهد ذى الألوان البراقة طعم متفرد. نتحدث هنا عن شاعر من نوع فريد وهو الشاعر صعيدى المنشأ فتحى عبدالسميع الذى رأى مشهد الثأر فى البيئة الصعيدية بروح الشاعر ووصفها بقلم الفنان الذى يشعر بخطر يداهم مجتمعه ويهدده، حاورناه لنعرف منه هذه الظاهرة ومدى خطورتها كما يعايشها.

■ ما الذى يدفع شاعرا للبحث والكتابة فى مشروع فكرى متشابك كقضية الثأر؟
الشاعر لا ينفصل عن واقعه بل يبحث عن الحضور الأعمق فى الواقع. ومشكلة الثأر من المشكلات المؤلمة فى الصعيد على المستوى الإنسانى، وتأملها كان جزءا من اهتمامى بالواقع، وكان فى البداية لا يتجاوز الرغبة فى فهم الظاهرة بشكل شخصى بحت، وقد رجعت إلى ما كتب عنها فوجدته أقل بكثير مما ظهر فى تأملاتى العادية، أو متابعتى لوقائع الثأر، ومن هنا عكفت على الدراسة لشعورى الشديد بالنقص فى دارسة الثأر، والاهتمام به رغم ما يسببه من ويلات.
■ حدثنا عن عنوان الكتاب. القربان البديل. البديل لماذا؟
■ القربان لغة هو كل ما نتقرب به، وفكرة القربان ارتبطت بالمعتقدات الدينية عند مختلف الشعوب، واشتهرت على وجه الخصوص بالذبيحة التى تقدم للمعبودات المختلفة، بهدف منع عقاب عن مقدمى الهدية، أو منحهم هدية، والشعوب المختلفة كثيرا ما قدمت القرابين البشرية لمعبوداتها، أو كوقود لحروبها المختلفة، فالجنود يضحون بأنفسهم من أجل فكرة الوطن، ويقتلون الآخرين لنفس السبب، وفى الثقافة القبلية نجد نفس الأمر، والثأر هو رأس الحربة فى الثقافة القبلية، ولابد من قتل القاتل، كى يعود النظام إلى وضعه الطبيعى، وفى الصعيد نجد القتل الثأرى القبلى، كما نجد أيضا «القودة» التى تعنى استبدال التصفية الجسدية، بتصفية رمزية، تتم من خلال الطقوس، ويتم فيها تطهير البقعة المظلمة داخل القاتل فقط، البقعة التى انطلقت منها قواه الشريرة، ودفعته لسفك الدماء. وطقس القودة لم يلتفت إليه أحد، رغم أنه يستحق الحضور على مستوى الثقافة الإنسانية، ويستحق أن نزهو به على العالم، لأنه يكشف عن القدرة الهائلة على تسامح الجماعة الشعبية فى صعيد مصر، وإدراكها لعيوب العنف المضاد كوسيلة وحيدة للرد على العدوان، فهناك سبيل إنسانى أرقى هو منهج اللاعنف الذى يقدمه الصعيد ومع ذلك لا يشتهر الصعيد إلا بالعنف. وهناك وعى مذهل بالجانب الرمزى فى الحياة الإنسانية جدير بالرصد والتحليل.
■ هل نحن أسرى لما نعتقده، أم أننا فقط نخاف ممارسة الحرية الفكرية؟
هناك قيود كثيرة لا نشعر بها، هناك أفكار تستعبدنا بالفعل، فمنذ مرحلة الطفولة ونحن نتعرض للبرمجة، والواقع الذى نعيش فيه مجرد صورة من الواقع الحقيقى، وتلك الصورة نتوارثها بلا وعى فى الغالب، ونحن نحتاج إلى جهود كبيرة كى نستوعبها، وكى نفهم أن الواقع أكبر من صورته التى تم حفرها فى أعماقنا، وسجننا فيها، ومعظمنا لا يملك الشجاعة الكافية للتفكير فى الخروج من تلك الصورة، ومن هنا نحن أسرى تلك الصورة.
■ الإصرار على انتماء ثقافة الثأر إلى الهوية المصرية القديمة، هل هو فى صالح هذه الهوية أم فى غير صالحها؟
علينا أن نفكر بموضوعية، وهذا يثرى هويتنا ولا يُفقرها أبدا، لا يجوز أن نتجاهل فرضية علمية لأنها قد تؤثر على هويتنا، ونحن فى الغالب نرسم صورة مثالية لمصر القديمة ولا نريد تعكيرها، لأنها صارت حصنا، فكلما عانينا فى الواقع أخذنا نغنى لمصر القديمة. ونحن فى الحقيقة لا نفهم الثأر بشكل حقيقى، فالثأر نظام متكامل يشمل القتل الثأرى ويشمل المصالحات الثأرية أيضا، وانتماء الثأر لمصر القديمة لا عيب فيه، فقد كان موجودا فى الثقافات التقليدية عموما، وأعتقد أن كل ما يجعلنا نقترب من الأمور بشكل حقيقى يفيدنا جدا.
 ■ الكتاب يشير إلى أن الجنوبى قد سبق الأكاديميين المستنيرين فى العاصمة، وذلك بتقديمه طقس القودة كعلاج موضعى  إن جاز التعبير لظاهرة الثأر. هل تؤكد على ذلك، وكيف يمكن تنمية المنجزات الثقافية الجنوبية ولفت الأنظار إليها؟
 لاشك أن طقس القودة طقس مهم جدا كموضوع بحثى، وكان يجب أن يلتفت إليه علماء الاجتماع والفولكلور وغيرهم منذ عقود طويلة، لكنهم لم يفعلوا، ولفت الأنظار للمنجزات الثقافية الجنوبية يتجاوز قدرة الجنوبيين، ولا مفر من طمس تلك المنجزات فى الغالب، فى ظل تهميش الصعيد على المستويات كافة.
■ هل ستكتفى بهذا الكتاب أم أن هناك كتابات أخرى فى نفس القضية؟
 هناك أربعة كتب أخرى، أنهيت كتابين منهم الأول هو طقوس القتل الثأرى، والآخر هو الفكر المسحور الذى يتناول الأسس الفكرية للثأر، ودور التفكيرى الأسطورى، والسحرى فى خروج الوحش الإنسانى من مكمنه، ومنحه الطاقة اللازمة لسفك الدماء، وأوشك على الانتهاء من الكتاب الرابع وهو الثأر والجغرافيا.
■ هل كان هناك تعاون أو دعم من جهات أكاديمية حكومية أو خاصة لهذا المشروع البحثى، أم أنه عمل فردى خاص بك؟
اعمل بشكل فردى خاص، والدعم الوحيد الذى حصلت عليه هو حصولى على منحة التفرغ لمدة أربع سنوات، وكانت بالنسبة لى محنة مادية كبيرة، إذ كنت أحصل على أقل من راتبى الشهرى بألفي جنيه، أى أننى ضحيت بثمانين ألف جنيه من أجل التفرغ للبحث وإنجاز الكتاب، وقد تسبب لى ذلك فى أزمة مادية شديدة طوال فترة التفرغ، وكان يؤلمنى كثيرا أن أطفالى يدفعون ثمنا لأمر لم يكن لهم شأن فى اختياره، خاصة أننى طوال حياتى لم أكن أضع المال فى حسبانى أبدا، وكنت أرغب فى مواصلة التفرغ، لكن وزارة الثقافة رفضت أن تمد لى سنة أخرى. وكان الرفض منحة حقيقية لأسرتي.
■ ما هى أهم صعوبات العمل البحثى المستقل، هل هى التمويل، أم التفرغ، أم الموضوعات التى توليها الدولة الأولوية؟
 العمل البحثى المستقل يحتاج إلى تمويل وتفرغ واهتمام من المجتمع، وفى غياب ذلك لا يُقدم عليه إلا عاشق مجنون.
■ هل تم تنظيم ندوات لمناقشة هذا الكتاب وطرح أفكاره بشكل كاف، فى القاهرة أو فى محافظات الصعيد؟
 تم تنظيم ندوتين للكتاب وسعدت بهما كثيرا لأكثر من سبب، الأول هو الخوف من صدور الكتاب دون أن يسمع به أحد، والآخر هو معرفة نظرة الآخرين للكتاب، فالفرد وهو يكتب غالبا ما يتوهم أنه ينجز عملا جيدا، ونظرتى لما أكتب تختلف عن نظرة سواى لما أكتبه خاصة لو كان متخصصا أو مهتما بالموضوع، وقد فرحت بحفاوة المشاركين فى الندوتين بالكتاب، وتأكيدهم على أهميته عبر مستويات مختلفة، فمنهم من تحدث عن الكتاب بوصفه عملا رائدا، أو وطنيا، أو نموذجا للكتابة البحثية فى علم الاجتماع، وكل ذلك أسعدنى، لكنى أشعر أن أفكار الكتاب تحتاج للمزيد من الطرح خاصة فى الصعيد، وللأسف لم يصل الكتاب للصعيد لعدم وجود منافذ بيع لدار النشر فى الصعيد، والكتاب فى النهاية لم يعد كتابى، إنه كتاب المجتمع، وأخشى من نهايته عند ذلك المطاف، وأتمنى طرح أفكاره بشكل أكبر، ويكفى أنه يعلى من شأن ثقافة التسامح فى أوقات يتآكل فيه التسامح بشكل خطير، وعلى نحو يهدد السلم الاجتماعى، وكل دولة تفقد السلم الاجتماعى مآلها التفتت، والضياع.