الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

من الشارع إلى الشاشة والعكس

من الشارع إلى الشاشة والعكس
من الشارع إلى الشاشة والعكس




كتب -  عاطف بشاى

قضى الأمر وفرضت البذاءة نفسها على دراما رمضان، وحل القبح والتدنى ضيفاَ دائماً ثقيلاً مزهقاً للأرواح على الشاشة، ورفع شباب المؤلفين الذين ظهروا فجأة كنبت عشوائى مجهول النسب والمصدر ليلطخوا جبين التليفزيون المصرى الذى كان راقياً وعفيفاً ووضاء وجميلاً بكل ما هو مسف ووضيع وحقير من فاحش القول والفعل والسلوك والتوجه فإذا ما أبديت امتعاضك صفعوك بذلك القول الجهول «إنت قديم» فى زمن جيل جديد لن تفهم مفرداته» أو كما قالت مؤلفة مسلسل «تحت السيطرة» الذى تدور أحداثه حول عالم الإدمان والمدمنين من الشباب والشابات» أن من يعترض على ذلك لايعيش فى مصر، المقصود أن الألفاظ المسفة والبذيئة شائعة فى الشارع المصرى.. فما الغرابة فى أن تكون شائعة على الشاشة؟!.. ذلك على اعتبار أن الدراما تمثل انعكاساً للواقع الاجتماعى الذى يشمل سلوك البشر وأفعالهم وردود أفعالهم ولغتهم، فإذا كان الواقع جميلاً تصبح اللغة جميلة، وإذا كان الواقع قبيحاً تصبح اللغة قبيحة، فتلك هى الواقعية الحقة، وذلك هو معيار المصداقية فى العمل الفنى، مع أن أى طالب بالمعهد العالى للسينما يدرس منذ السنة الأولى العلاقة بين الفن والواقع ويدرك بناء على تلك الدراسة أن الفن – أى فن – فما فى ذلك فن كتابة السيناريو ليس نقلاً مباشراً عن الواقع أو محاكاة حرفية له أو تقليداً مطابقاً لأحداثه، وإلا لما صار فنا، ولا أصبح مبدعه فناناً، ولما كان من الأهمية أن يكون دارساً أو مثقفاً أو موهوباً ويمكن بالتالى لأى عابر سبيل أن يمتهن تلك المهنة.
لكن الفن الحقيقى هو تعبير جمالى عن الواقع فالخطاب الفنى خطاب جمالى يخضع لفلسفة الجمال وبالتالى فالواقع من خلاله يخضع للتهذيب ويخلصه من شوائبه وترهله وفوضويته وتضارب أحداثه وعدم معقوليتها واعتمادها على الكثير من المصادفات وأزمنته الميتة ولغته المتدنية وإيقاعه المترهل ومواقفه غير المنطقية وأحداثه وصراعاته غير المتماهية مع مضمونه الفكرى أو محتواه الفلسفى، وشخصياته غير المتسقة تركيباتها الاجتماعية والنفسية مع تصاعد الأحداث، وصولاً إلى ذورة درامية يتضح من خلالها الهدف من الدراما.
هذه الفروق الجوهرية بين الفن والواقع من الطبيعى إذاً أن تشمل اللغة أو الحوار الدائر بين الشخصيات، وبصرف النظر عن التفاوت بين تلك الشخصيات فى الثقافات ومستوى التعليم، وطبيعة المهن التى يمتهنونها والتمايز الطبقى بين أفرادها، وتباين أخلاقهم وأمزجتهم وأعمارهم فإن الحوار ينبغى أن يكون موحياً ودالاً ومعبراً عن أفكار ومعانى وأهداف وعواطف ومشاعر، وبناء عليه فإن شخصية «العاهرة» على الشاشة لا تحاكى العاهرة فى الواقع، وإلا كان من الطبيعى أن نراها تخلع كل ملابسها وتمارس الجنس بكل تفاصيله وتؤتى من الأفعال والألفاظ والأصوات ما يتطابق مع طبيعة مهنتها.
ولعلنا نذكر أنه فى فيلم «بداية ونهاية» تحفة رائد الواقعية المخرج العظيم «صلاح أبوسيف» فإن نفيسة التى امتهنت الدعارة كرد فعل لفقر عائلتها الطاحن لم نر لها مشهداً بل ولا لقطة واحدة تعبر بها عن لزمات وأكلشيهات تلك الشخصية كما اعتادت أن تقدمها الأفلام التجارية المصرية، لم نشاهد «نفيسة» تتعرى أو تتأوه بين أحضان رجل أو تلوك بخلاعة اللبان أو تغمز بعينيها لزبون أو تضحك بفجور أو تدخن سيجارة تحت عمود إنارة  أو «تضرب حقنة» على حد تعبير مدمنى الألفية الجديدة  كل ما شاهدناه يدل على احترافها الدعارة لقطة تهبط فيها من سيارة سائق، يده تقذف لها بعملة معدنية، تمتد إليها يدها بينما يعتصر وجهها ألماً وأسى وقهراً واحساساً طاغياً بالهوان والمذلة فى لقطة قريبة موحية لا تنسى، والخلاصة أن التسجيل الفظ للواقع الاجتماعى المعاش نقله إلى الشاشة كما هو بترهله وتدنيه وانحطاطه باسم الواقعية فى العمل الفنى هراء وادعاء ولا يعكس إلا ضعف موهبة الكاتب وضحالة خياله.
إن الواقعية تبكى وتنتحب من جراء الابتذال والفجاجة، فالفن تكثيف وارتقاء وتعبير موح وغير مباشر وبليغ للواقع واستخلاص لعلاقاته الجمالية وتركيز على مضمونه الفكرى والنفسى والإنسانى.
وبناء على ذلك فإنه يمكننا أن نحدد بوضوح أسباب تدنى المستوى الفنى والفكرى لمعظم المسلسلات الرمضانية هذا العام والأعوام السابقة التى سيطرت عليها الموجة الشبابية الجديدة، ونتحسر على سينما الشباب فى الستينات وما بعدها والتى عبرت عن نفسها بقوة واقتدار كما عبرت عن أحوال مجتمع ما بعد الهزيمة والممثلة فى كتاب ومخرجين كانوا شباباً وقتها مثل رأفت الميهى وعلى عبد الخالق وعلى بدرخان ومحمد راضى وسعيد مرزوق وأشرف فهمى ومصطفى محرم وممدوح الليثى ونادر جلال ومحمد عبدالعزيز كما نتحسر على المستوى الفنى والفكرى لجيل الشباب للدراما التليفزيونية وقتها أيضا، وتتمثل فى أسامه أنور عكاشة ووحيد حامد ومحفوظ عبدالرحمن ومحسن زايد ويسرى الجندى وعاطف بشاى وجلال عبد القوى وإسماعيل عبدالحافظ ومحمد فاضل ويحيى العلمى.
كنا نود إذا كانت الواقعية التى يتشدق بها هؤلاء الكتاب والمخرجون الجدد أن ترصد وتعالج حقاً مشاكل ذلك الواقع وهموم الوطن والمواطن وقضاياه الملحة فى تلك المرحلة الخطيرة والدقيقة من عمر الأمة لا أن تغرق فى رصد معاناة شخصيات منهارة لا يتعاطف معها أحد، وخاصة فى مسلسل «تحت السيطرة» فليس هناك رسم واضح للشخصيات المتداعية تلك توضح سر أزماتها التى أودت بهم فى غياهب الإدمان اللهم إلا أنهم يشتركون جميعاً فى الانتماء إلى شرائح اجتماعية برجوازية يعانى أفرادها من البطالة والفراغ والتفاهة والاهتمامات السطحية، والعلاقات العاطفية اللزجة التى لا تحمل قضايا لها قيمة أو معنى، وبالتالى فإن الدراما تظل تدور فى أجواء خاوية لا تهم الشاهد ولا تدعوه إلى التأمل لحال ضائعين وضائعات تافهين وتافهات انحرفوا لأسباب لها علاقة بذواتهم المنحطة، وليس لها علاقة بظلم اجتماعى أو قهر مورس ضدهم، إنهم لا يستحقون التعاطف ولا يستحقون ضياع الوقت فى متابعتهم.
لكن المفزع حقاً ألا ترى عيون هؤلاء الذين يرتدون أثواب الإبداع المهترئة إلا مظاهر البذاءة والفحش والانحراف، فتنقل الشارع القبيح إلى الشاشة دون أى سعى حقيقى إلى التأمل والتحليل وإبراز المغزى وطرح رؤية تضع يدها على أوجه الخلل الذى يكشف العورات ويستخلص العبرة ويلمس الجوهر، فتكون النتيجة أن يردوا إلى الشارع هذا الواقع القبيح حيث يرى أفراده أنه من الطبيعى والمعتاد أن تكون ثقافة الفجور والانحلال والإدمان والعنف والجريمة وفظاظة السباب هى الثقافة السائدة.
أى أن العملية التبادلية تلك يصبح عنوانها : من الشارع إلى الشاشة، ومن الشاشة إلى الشارع.
حينئذ يتم دفعنا دفعاً – كنقاد ومثقفين – للأسف الشديد إلى الكفر بحرية التعبير، والمطالبة بقبضة رقابية حديدية على الإبداع حماية للأمن القومى .