الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عمر الشريف.. والإعلام

عمر الشريف.. والإعلام
عمر الشريف.. والإعلام




كتب -  عاطف بشاى

رحل «عمر الشريف» وبدلا من أن يتفرغ النقاد وكتاب الرأى الفنى للكتابة عن أعماله الفنية ويتولون تحليل أفلامه السينمائية سواء تلك التى أبدع فى تجسيد أدواره فيها ابتداء من ظهوره على الشاشة المصرية فى زمن «الأبيض والأسود» ابتداء من «صراع فى الوادي» و«صراع فى النيل» و«أيامنا الحلوة» و«إشاعة حب» و«نهر الحب» و«بداية ونهاية» و«سيدة القصر» و«فى بيتنا رجل» إلخ.. ثم غيابه عن السينما أثناء تعاظم سطوة المخابرات قبل حرب (يونيو 1967) حيث اشترك فى تمثيل عشرات الأفلام الأوروبية والأمريكية، ثم غيابه عن مصر مرة أخرى نحو عشرين سنة من 1965 وحتى 1983 لينطلق انطلاقاته العالمية الكبيرة ويلعب بطولة مجموعة كبيرة من الأفلام المميزة مع أبطال وبطلات السينما العالمية من المشاهير، ثم عودته مرة أخرى إلى السينما المصرية ابتداء من فيلم «أيوب» إخراج هانى لاشين، من انتاج التلفزيون وسيناريو وحوار محسن زايد عن قصة «لنجيب محفوظ»، وأعقبه بفيلم «الأراجوز» لنفس المخرج، و«المواطن مصري» لصلاح أبو سيف، و«حسن ومرقص» إلخ.
أقول بدلا من أن يتناول الإعلاميون الإهتمام بدراسة قيمة هذه الأفلام ومدى إثراء عمر الشريف بموهبته الفياضة، وتميزه الرائع فى الأداء التمثيلى، تفرغوا لحواديت النميمة واتفتحت شهيتهم إلى سرد سبل من حكايات شخصية تحتوى على كم كبير من الافتراءات والاغتياب وأحيانا الرغبة المرضية فى التشهير بالرجل والإساءة إليه واختلاق الأكاذيب بهدف إثارة فضول القارئ والترويج التجارى للجرائد والمجلات التى يكتبون فيها، وقد أثار الكاتب الصحفى والناقد المميز عصام زكريا تلك القضية فى «البوابة» فى مقال طويل بعنون «زاهى حواس المتحدث غير النزيه باسم عمر الشريف»، ووصفه بأنه نصّب نفسه حارسا وحافظا على ذاكرة عمر الشريف وأسراره ومكنونات نفسه، كما لو كانت تلك الذاكرة أحد الممياوات أو الآثار الفرعونية التى يتحدث باسمها بما أنه يتولى منصب وزير الآثار.
يذكر أن عمر الشريف فى الأطوار الأخيرة من مرضه كان يتكتم أخباره حتى لا تصل إلى الصحف، ولكن «زاهى حواس» سرب الأخبار إلى أحد الصحف الأسبوعية وقامت الدنيا حول مدى أخلاقية نشر هذه الأخبار، ثم أعلن فى برنامج يومى بالتلفزيون أن حالة صديقه «عمر الشريف» متدهورة للغاية وأنه اتصل به فى إبريل الماضى ليهنئه بعيد ميلاده فلم يتعرف «عمر الشريف» عليه، وفى تصريحات لشبكة (إن بى سي) الأمريكية يوم وفاة «عمر الشريف» قال زاهى حواس عن مرض عمر الشريف الأخير، منذ حوالى عام عندما آتى من باريس كنا نخرج معا يوميا.. وكان يتوقف ليسألنى: هناك رجل فى مصر أريد أن أراه بشده.. أنا أحبه جدا وكنت أسأله: من هو هذا الرجل ؟!.. هل هو زاهى حواس فكان يجيبنى: نعم هو كما يوحى «زاهى حواس» للقارئ بأن أسرة «عمر الشريف» مسيحية مصرية من «طنطا».. وهذا ليس صحيحا بالمرة فأبوه «ديمترى شلهوب» لبنانى وأمه سورية، بينما يقول الناقد الكبير سمير فريد: ولد «عمر الشريف» ونشأ فى مصر الليبرالية المنفتحة على كل الأديان والأعراق والتى تتماهى بذلك مع تاريخها الطويل وجغرافيتها المميزة، وكانت الإسكندرية أكبر رموز مصر الليبرالية التى كانت.
أما ما ينبغى أن يكتب عن عمر الشريف وما يهمنا من رحلته مع الحياة هى ما حققه من انجازات فنية كبيرة فقد كان درة من درر السينما المصرية والعالمية الغالية.. والذى يعتبر الممثل المصرى الوحيد الذى عبر الحدود وانطلق ليحقق تميزا عالميا مبهرا مع كبار المخرجين الأمريكيين والفرنسيين والبريطانيين، ووقف أمام ألمع الممثلين.. وحصل «الجولدن جلوب» أكثر من مرة بالإضافة إلى جائزة «التسامح» وهى الأولى من نوعها من مهرجان البندقية عن دوره فى فيلم «إبراهيم وزهور القرآن» قدم من خلاله شخصية بائع كتب عجوز تنشأ بينه وبين شاب يهودى علاقة صداقة قوية، إنه ذلك التسامح الذى شمل أيضا حياته الشخصية فقد ولد يهوديا، ثم اعتنق الإسلام وتزوج نجمة سينمائية كبيرة مسلمة هى فاتن حمامة، لكن المفارقة أنه أحب بعد ذلك نجمة يهودية هى الممثلة والمغنية «باربا سترايند» التى مثل معها فى فيلم «فتاة مرحة»، فما كان من الحكومة المصرية وقتها إلا أن قامت بمنع عرضه لغضبها من قيامه بالتمثيل مع شخصية يهودية.
ولا جديد أن نقول إنه كان يتمتع بموهبة فياضة فى فن التمثيل.. وأن الأفلام السينمائية المصرية التى قام ببطولتها قد اكتسبت فى كثير منها قيمة كبيرة بسبب تجسيده لبطولتها (مثلا: أيامنا الحلوة - صراع فى المينا - المواطن مصرى - نهر الحب) فالمدهش مثلا أن دور العاشق الذى لعبه فى فيلم «نهر الحب» أمام فاتن حمامة والمأخوذ عن رواية «أنا كارنينا» قد جذب إليه جماهير المتلقين الذين تعاطفوا تعاطفا جما مع قصة الحب أو فلنقل «قصة الخيانة» التى جمعت بينهما بعيدا عن أعين الزوج المخدوع الذى جسد دوره ببراعة «زكى رستم» بل توحدوا مع شخصيته وتمنوا أن ينتصروا له، لينجح فى تتويج قصة الحب تلك إلى الزواج منها بعد التخلص من زوجها بالطلاق، ذلك رغم فشل السيناريست فى رسم الشخصيات بأبعادها الاجتماعية والنفسية، ومخاصمتها للمنطق، فالزوج الذى أراد له أن يكون منفرا كريها لم يكن هكذا فى حقيقة الأمر بل على العكس، كريما معطاء، نبيل السلوك والخلق، ولا تستحق أن تتمرد عليه تلك المارقة الجاحدة لفضله العميم عليها وعلى أسرتها لكنها طعنته فى شرفه دون جريرة أو مبرر واستحقت بالتالى أن يحرمها من رؤية ابنها.
ويقدم عمر الشريف - رغم أنه كان فى بداية الطريق - درسا فنيا راقيا لأبطال الكوميديا فى فن الأداء الكوميدى فى «إشاعة حب» إخراج فطين عبد الوهاب فجسد روح الشخصية وملامحها الداخلية معتمدا على الموقف والحدث الدرامى دون تزيد أو محاولة لإقحام لزمات خاصة أو افتعال للإضحاك، فأعطى للدور عمقا وأكسبه قدرة على البقاء فى ذاكرة ووجدان المتفرج، أما جنازته الهزيلة التى غاب عنها النجوم وسادت فيها الفوضى وعم القبح والإهمال وتكالب وتدافع المصورين، وعدم تقدير الإعلام واحترامهم للمبدعين ولجلال الموت، فلا يمكننا إلا أن نقول إن إبداعات الفقيد وطلته الآسرة وحضوره الوضاء سيبقون رغم الفراق، ورغم الزمن الضنين.