الخميس 26 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

قدس الأقداس

قدس الأقداس
قدس الأقداس




كتب -  عاطف بشاى

كنت عائدا وزوجتى من رحلة مضنية فى الأسواق لشراء ما تبقى من مستلزمات جهاز ابنتى، دفعت فيها آخر ما أملكه من نقود فى زمن الجدب الأعظم، هرعت إلينا العروس تنهال علينا بالقبلات الحارة وعبارات الامتنان البالغ، وأسرعت تتناول الموبايل الخاص بها فهاتفت خطيبها تبشره أن كل شىء تمام فقد اشترينا لها مفرشين للسفرة أحدهما «دانتيل» والثانى مشغول بالسيرما، وستائر تل مطرز تحتها بلاك أوت» وفوق التل براقع من القطيفة ومفرشين لسرير حجرة النوم أحدهما «لاسيه»، والآخر «ساتان كابوتونيه» فقال لها خطيبها بانبهار: كابوتونيه؟! أنا أحب الكابوتونيه جدا، قشطة، فقالت هى نعناع.
أما أنا فقد تنفست الصعداء وقلت لزوجتى: الحمد لله فقد أتممت رسالتى المقدسة بالكابوتونيه الفاخر، ولم يعد مطلوبا شىء منى، وسوف أتفرغ فى المرحلة القادمة لسداد ديونى، وبالرغم أنها تمثل كل مدخراتى من حصيلة كفاحى المرير لأكثر من ثلاثين عاما رفضت خلالهم أن أبيع قلمى أو أعمل مؤلفا ترزيا لدى النجمات أفصل لهن الأدوار أو ألهث وراء مطربة تريد أن تقتحم ميدان التمثيل لأكتب لها مسلسلا مليودراميا بكائيا يخلد كفاحها المرير لاعتلاء عرش النجومية بموهبتها العبقرية رغم فواجع المشوار ووعورة الطريق.
ولكنى قلت لنفسى يكفينى إحساسى بالرضا الذى يشعرنى بسعادة غامرة، ولا شىء يهم على رأى عمنا إحسان عبد القدوس وكله يهون فى سبيل ابنتنا الحبيبة.
ثم ما لبثت أن تناولت صحيفة إلى جوارى وأخذت أقلب صفحاتها حتى استقرت عينانى على عمود الدكتور خالد منتصر اليومى.. و«خالد منتصر» بالإضافة إلى كونه مفكرا قديرا يناهض فى كتاباته جراثيم التخلف، وفقه التكفير والمصادرة، والردة الحضارية التى نعيش فى كنفها بفضل فتاوى الظلاميين، فإنه يتمتع بحس ساخر يحاول أن يستريح من خلاله أحيانا من لهيب معاركه المستعرة، ليكتب مقالات خفيفة تتسم بالطرافة، لكن هيهات فالمفارقة بقدر كوميديتها فهى تثير الأسى وتبعث على التأمل العميق فى أحوالنا الاجتماعية والإنسانية.
المقال يتحدث عن لهاث الأسرة وتوترها فى شراء طقم الصينى للبنت التى تتأهب للزواج، والذى سوف يوضع فى «النيش» ليستعمل مرة واحدة كل عشر سنوات، وهو إصرار يحدث فى كل الأسر ومع كل البنات وفى كافة طبقات المجتمع، وكأنه نص سماوى مقدس.
يقول خالد منتصر: الأكثر دهشة هو أن كثيرا من الأمهات بعد ولادة البنت تذهب إلى بورسعيد مباشرة لشراء الصينى للبنت التى ستتزوج بعد ربع قرن وتعود غانمة فرحانة بالهروب من الجمرك لتضع الكرتونة أسفل السرير تنظر إليها بهيام وشغف غير عابئة بتغيير الأذواق بعد هذا الربع قرن.. و..
وقطعت قراءتى للمقال زوجتى وهى تصيح ساخرة:
- طبعا أنها من المسلمات التى لا تقبل الجدل، لا زواج بدون الصينى.
أكملت:
والذى يبعث على اللطم والنواح أنه بجانب هذا الطقم الصينى تشترى طقم الملامين للاستعمال فيصبح لدى البنت طقمان، الأول صينى للسياح والفرجة، وكأنه معبد «الكرنك» والثانى صينى مضروب اسمه الملامين لزوج المستقبل وأولاده وأحيانا يستخدم فى الخناقات الزوجية من ضمن أسلحة الدمار الشامل.
ضحكت زوجتى طويلا، ثم أخذت سمت الحكماء وقالت: إنها عبودية الأشياء، والثبات على القديم، والتشبث بالماضى، والجمود الفكرى، ورفض التطور، ومعاداة الجديد.
قلت بزهو وأنا أنظر إليها بتقدير وامتنان:
- الحمد لله أننا نمثل أسرة مستنيرة نسمو بأنفسنا فوق الترهات وسفاسف الأمور، والتقاليد البالية، والثوابت الكريهة، والعادات القميئة، ونرنو إلى آفاق رحبة من الرقى والتقدم.
لقد اكتفينا بالصينى المضروب، الملامين المتين، فثقافتنا وثقافة ابنتنا الرفيعة تحمينا من تلك الإزدواجية اللعينة فى استخدام نوعين من الصينى.
قالت فى هدوء :
- فعلا، لقد نسينا، ومقاله د. خالد منتصر ذكرتنا، لابد أن تتصل به لتشكره.
لم أفهم ما تقصده، قلت متوجسا مستوضحا:
- أشكره على أى شىء ؟!
- على تذكيره لنا بالطقم الصينى، غدا نشتريه.
صعقت، وألجمت المفاجأة لسانى، ولما عرفت أن عليّ توفير مبلغ عشرون ألف جنيه ثمنا للطقم الصينى سقطت مغشيا علىّ، ولما أفقت قررت مقاطعة د. خالد منتصر.