الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

صلاح عبد الصبور الباحث عن الإنسان الباقى ﻻ المجتمع العابر

صلاح عبد الصبور الباحث عن الإنسان الباقى ﻻ المجتمع العابر
صلاح عبد الصبور الباحث عن الإنسان الباقى ﻻ المجتمع العابر




كتبت: رانيا هلال
تمر بنا هذه الايام ذكرى الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور والذى يعد علامة من العلامات الفارقة فى تاريخ الشعر الحر. ولد محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكى، فى 3 مايو 1931 بمدينة الزقازيق وهو أيضا ومن رموز الحداثة العربية المتأثرة بالفكر الغربى، كما يعدّ واحداً من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة فى التأليف المسرحى، وفى التنظير للشعر الحر.

وُلد الشاعر فى إحدى قرى شرقىّ دلتا النيل التابعة لمركز الزقازيق، محافظة الشرقية. وتلقى تعليمه فى المدارس الحكومية. ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية فى عام1947 حيث درس اللغة العربية، وفيها تتلمذ على يد الرائد المفكر الشيخ أمين الخولى الذى ضم تلميذه النجيب إلى جماعة (الأمناء) التى كوّنها، ثم إلى (الجمعية الأدبية) التى ورثت مهام الجماعة الأولى.. وكان للجماعتين تأثيراً كبيراً على حركة الإبداع الأدبى والنقدى فى مصر. وحصل على البكالوريوس فى اللغة العربية عام 1951.
وعلى مقهى الطلبة فى الزقازيق تعرف على أصدقاء الشباب مرسى جميل عزيز وشاب نحيف كان يكبره بعامين وتخرج لتوه من معهد الموسيقى واسمه عبد الحليم شبانة أو حافظ فيما بعد، وطلب عبدالحليم حافظ من صديقه صلاح أغنية يتقدم بها للإذاعة وسيلحنها له كمال الطويل فكانت قصيدة لقاء. تنوعت المصادر التى تأثر بها إبداع صلاح عبدالصبور؛ من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة العربى، مروراً بسيَر وأفكار بعض أعلام الصوفيين العرب مثل الحلاج وبشر الحافى، اللذين استخدمهما كأقنعة لأفكاره وتصوراته فى بعض القصائد والمسرحيات. ودع صلاح عبد الصبور بعدها الشعر التقليدى ليبدأ السير فى طريق جديد تماماً تحمل فيه القصيدة بصمته الخاصة، زرع الألغام فى غابة الشعر التقليدى الذى كان قد وقع فى أسر التكرار والصنعة فعل ذلك للبناء وليس للهدم، فأصبح فارسا فى مضمار الشعر الحديث.
«الناس فى بلادى» هو أول ديوان لصلاح عبد الصبور أحد رواد شعر التفعيلة أو مدرسة الشعر الحر، والذى صدر عام 1957 وسيطرت عليه روح السخرية والمأساة واستخدام مفردات يومية، ولعبد الصبور عدة دواوين منها: «أقول لكم»، «أحلام الفارس القديم»، «تأملات فى زمن جريح»، «شجر الليل»، و«الإبحار فى الذاكرة»، وكتب عبد الصبور عددًا من المسرحيات الشعرية: «ليلى والمجنون» «مأساة الحلاج»، «مسافر ليل»، «الأميرة تنتظر».
أما عن مؤلفاته النثرية «على مشارف الخمسين»، و«تبقى الكلمة»، «حياتى فى الشعر»، «أصوات العصر»، «ماذا يبقى منهم للتاريخ»، «حتى نقهر الموت»، وكان له أيضًا تجربة  قصيرة مع القصص القصيرة.
■ الناقد أحمد حسن: لؤلؤة فى جبين الشعر
يظل صلاح عبدالصبور لؤلؤة متألقة فى جبين الشعر العربى المعاصر وهو من المبدعين الذين يزدادون توهجا وبريقا كلما مرت عليهم السنين ﻷن شعره فى تصورى الشخصى غير قابل للنفاد أو الاستهلاك الجمالى الذى قد يجعل المتلقى يغض الطرف عن تأمله أو معاودة قراءته بين الحين واﻵخر  ولعل السر فى جاذبية صلاح المحببة أنه قد بنى عالمه الشعرى وفقا لوعيه الفائق بالفن فى توجهه للإنسان باﻷلف واللام، اﻹنسان بنوازعه الخالدة وصفاته المقيمة.
لم يجعل صلاح عبدالصبور قصيدته تلاحق الوقتى والعابر الذى ﻻ يستطيع أن يخاطب أبعد من يومه الراهن وإنما جعل اليومى والمعيش قناعا يلفت النظر إلى ما ورائه من صراعات أساسية ونوازع أصيلة فى جوهر الوجود اﻹنسانى، كل ذلك صاغه صلاح  عبر لغة أليفة تأخذ بيد القارئ وتصحبه إلى عوالمها الداخلية وتكشف له عن أسراراها دون تعال أو استعراض ثقافى أو غموض ﻻ يفضى إلى شيء بالرغم من كونه أكثر شعراء جيله ثقافة وأوسعهم إطلاعا لكنه كان واعيا بوظيفة الفن الذى يستهدف اﻹنسان الباقى ﻻ المجتمع العابر وكان يرفض تيارين من الشعر: تيار البهلوانية والشعوذة كما أسماه وتيار متابعة اﻷحداث اليومية بالوعى الساذج الذى تنطفئ فيه قيمة القصيدة بمجرد انقضاء الحدث وانتهاء تأثيره.
وﻻ يقتصر على الشعر كما نعلم وإنما يستزيد ليشمل المسرح الشعرى والكتابات النقدية الغزيرة والترجمات اﻷدبية وهى صيغ إبداعية وثقافية تحتاج إلى معاودة التأمل للكشف عن قيمها الرفيعة وإسهاماتها الفياضة فى كتاب الثقافة العربية العميقة واﻹبداع العربى المشرق.
■ الشاعر أحمد سمير سعد: يملك منى أكثر مما توقعت
لوقت قريب كنت أظن أن قراءتى لصلاح عبد الصبور لم تتعد بضع قصائد متناثرة لكن وبعد اقتناء أعماله الكاملة اكتشفت أننى قرأته كله ربما وأنه كان زادى لأيام كثيرة ماضية.
ربما لم أقرأه بشكل فيه توال أو تصميم مثلما فعلت مع الأعمال الكاملة لأمل دنقل أو لنجيب سرور لكنه يتسرب إليك ويملكك دون أن تدرى، تقرأه متناثرا حتى يملأك ويفيض.
منذ قرابة العامين كنت بصدد كتابة مشهد قصصى لرواية، المشهد بين كاتب يعانى وحبيبته القارئة النهمة، كان يريد منها إجابة بعدما صرح لها بحبه، غير أنها لم تجبه برد صريح بل ردت بأبيات شعر، كان هذا المشهد مستندا لحدث واقعى، أجابت فيه الفتاة حبيبها بأبيات شعر لنجيب سرور لكنها لم تجبه بالأبيات مباشرة بل قالت له فى خجل ستجد إجابتى فى قصيدة عينتها له لسرور.
عندما سردت المشهد وجدتنى أغير الأبيات لأجعل الفتاة تجيب الفتى بأن إجابتها فى المقطع الثانى لقصيدة (أقول لكم)..
هى تدابير اللاوعى والرغبات والأفعال غير المفسرة لشياطين الكتابة، رغم أنى مفتون بسرور وأعماله وجنونه وصراعه ودرامية حياته وصدامه إلا أننى لم أجعل منه حمامة الحب.
الأغرب أننى اكتشفت أن عبد الصبور يملك منى أكثر مما توقعت وأنه حاضر بقوة لا أدريها فى خلفيات عقلى وأن كلماته رنانة وتشكلنى دون أن أدري.
وهنا يتجلى الفارق بين دنقل وسرور وبين عبد الصبور، جميعهم قضيتهم الإنسان لكن الأول والثانى يحتشدون غضبا وثورة ويكتبون، أبياتهم -على جمالها- مانيفستو زاعق وتمرد بينما عبد الصبور خلفية موسيقية يملؤها الشجن تتخلل كل العالم والحياة لذا فهو يتسرب لك مع العالم ربما دون أن تدري، هادئا لكنه فعال، يشكل وعياً بلا جلبة أو ضجيج ودون أن تعى ربما.
وهو ما قد يلقى ببعض الضوء على وفاته الدراماتيكية بذبحة صدرية إثر مشاجرة مع الراحل بهجت عثمان فى منزل صديقيهما أحمد عبد المعطى حجازى بعد اتهامات وجهت له بقبول منصب رئيس هيئة الكتاب وتخليه عن الوقوف ضد التطبيع.
أشعار عبد الصبور تتخذ المنحى الأصعب، منحى تغيير الذائقة والوعى، ترسخ لفعل ثورى قد يأتى وقد لا يأتى لكنه متى أتى فلابد سينتصر.
■ الشاعر هرمس:  إزاحةِ الإنسان عن صدر العالم
سأقولُ لكُم لماذا بدأ صلاح عبد الصبور بنثر العالم؛ لأن ميادين زمانه، الذى هو زمانٌ ماضٍ، آتٍ، وهو الزمان الشعريّ الذى لا يحدُث، كانت ميادين مبعثرة. من هناك تماما وقفَ هو على ثياب بشرِ الحافى الملقاة على انفتاحِ السوقِ على الرمضاء، نظرَ إلى الوجوه التى أفزعت بشرا وفزعَ مما يُفزِعُ فى هذا المنظرِ والحال. أشار بيدهِ إلى الإنسانِ وهو يغيبُ عن صدرِ العالم، عن مركزه، هناك شهد هو هذه الإزاحة التى تحدثُ أبدا منذ صعدَ الإنسان من العلمِ إلى العالم. هناك أدركَ أنه لا يعينك شىء، وأنه لا شىء حقًا هنك، هذه لمحةٌ لقلبِ العدمِ الزاحف على مُركّبات البشرية محلّلا إيها لعناصرها الأولى، ثم مبعثرا إياها عن المركز، وهناك فى المركز تتقاتل ناس برؤوس حيوانات وحيواناتٌ برؤوس ناس لكن الإنسان: مُزاح. الهنيهةُ هنا ضيقةٌ لتقديم هذا لكن يمكن قصرُ الحديث فى مشهدٍ أثير لدى صلاح عبد الصبور يحكيه هو فى حياتى فى الشعر. إنه مشهدُ الإضاءة المباغتة على صلاته، التى تلاشت ومعها تلاشى اليقين الطفولى بالعالم وأشيائه. هناك وقف الإنسان وحيدا مقطوعا بنفسه من شجرةٍ الخلد، وصلاح عبد الصبور أرّخ وعاصرَ قطعه عن شجرة الفناء/المعرفة.
■ القاص محمد أبوعوف: المسرح وعبدالصبور
المشهور عند صلاح عبد الصبور هى مسرحية مأساة الحلاج، ومسرحياته لها مكانة عندى، خاصة مسافر ليل،  وأهمية هذا العمل تكمن فى انتمائها لمسرح العبث، وهى خطوة جريئة أن يقرر كاتب نقل التجربة العبثية إلى الوطن العربى بعد تأثره بمسرح يونسكو، لكن عبد الصبور يسمى مسرحه اللامعقول وقال عنه (لقد ظلمت كلمة اللامعقول، إنه ليس مسرحا لا معقولا بمنعى أنه مجاف للعقل ولكن بمعنى أنه مجاف للقوالب العقلية المسماة بالمنطق ومن هنا فهو يخضع للعقل العام وحتى كلمة (عبث) تبدو كلمة مخيبة للثقة، من يستطيع أن يعبث فى هذا العصر الذى نعيش فيه، حتى ولو كان ذا نفس عابثة، لنميزه إذن باختلافه عن سبيل منطق العقل إلى سبيل روح العقل) إذن عندما يرى الكاتب أن العالم انقلب رأسا على عقب فإنه يتجه للعبثية كنتاج طبيعى لجنون العالم.
وبالعودة إلى مسافر ليل، نجده استخدم اللغة الشعرية رغم ذكره أنها كانت من الممكن أن تكتب نثر لكنها ستفقد الكثير.
الراوى فيها بديل الجوقة إذ يوضح ويشير، فهو يمثل الأغلبية الذين لا دور لهم فى مسرح الحياة وقد يساعدون الجلاد على حمل جثة الضحية، وهو الذى يحاول توضيح ما غمض على الناس لكن مكانه على المسرح له دلالة وهو حافة الحياة على اعتبار ان المسرح يمثل الحياة.
أما المسافر فهو مثال للإنسان المعاصر بلا ملامح بلا هيئة فقط إنسان مسافر فى قطار فى منتصف الليل يكتشف أنه متهم بأكبر اتهام فى الحياة وهو قتل الله وأنه سرق هويته. أما عامل التذاكر فهو جلاد هذه المسرحية وجبارها، وبهذا فقد قدم صلاح عبدالصبور فى مسرحيته مسافر ليل نظرته للحياة بمنظور عبثى بعدما رأى عبثية هذه الحياة وعبثية القيم والثوابت فالمسافر هو الإنسان العصرى المقهور وعامل التذاكر هو القاهر لهذا الإنسان والراوى ممثل لمن يعيشون على هامش الحياة سائرين جميعا فى قطار الحياة ليلا بلا توقف.
فمسرح عبد الصبور، جدير بإعادة تسليط الضوء عليه بجانب شعره، فإنه تجربة ثرية ممتعة.