الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الفخرانى يودع ثياب الملوك ويرتدى ملابس الشحاتين فى «ليلة من ألف ليلة»

الفخرانى يودع ثياب الملوك ويرتدى ملابس الشحاتين فى «ليلة من ألف ليلة»
الفخرانى يودع ثياب الملوك ويرتدى ملابس الشحاتين فى «ليلة من ألف ليلة»




ارتبط ظهور النجم يحيى الفخرانى، وتواجده على خشبة المسرح بمسرحية «الملك لير» لسنوات طويلة، والتى شهدت إقبالا جماهيريا غير مسبوق، منذ عرضها الأول على المسرح القومى، ثم انتقالها فى الإعادة للمرة الثالثة، على خشبة مسرح ميامى، وحقق الفخرانى نجاحا كبيرا، بأدائه لشخصية « لير»، ومن شدة اندماجه وتوحده مع الشخصية، طبعت صورة «الملك لير» لوليم شكسبير الإنجليزى، فى أذهان الجميع بهيئة يحيى الفخرانى، الممثل المصرى الأصيل، وكأنها شخصية حية وحقيقية.
 وكعادته فى البحث عن كل ما هو مختلف، ومثير للدهشة يعود الفخرانى على القومى بمسرحية جديدة، ورغم أنه يعلم جيدا صعوبة استيعابه، فى عمل مسرحى آخر بعد «لير» نظرا لتكرار إعادتها، إلا أنه قرر أن يخوض التجربة فى «ليلة من ألف ليلة» مع بيرم التونسى، وهنا تشاهده للمرة الثانية، وعلى نفس خشبة المسرح، بعد خلع ثياب الملك، مرتديا ثياب «الشحاتين»، فى شخصية شحاتة المتسول المحتال، فلم يكتف الفخرانى بإجادة التلون، فى أدائه بأعماله التليفزيونية، بل استطاع تحقيق نفس مستوى الكفاءة والعمق بأدائه الرشيق والبسيط، فى تناول هذه الشخصية الكوميدية الماكرة، ففى قالب كوميدى موسيقى غنائى واستعراضى، ومن خلال حوار ممتع عذب، كتبه الراحل بيرم التونسى منذ سنوات طويلة، قدم لنا الفخرانى عملا مسرحيا ضخما نفتقد لمثله اليوم، فلم نشاهد على مدار السنوات الماضية، عملا مسرحيا محكم الصنع، كما تحقق فى « ليلة من ألف ليلة»، على يد أبطاله ومخرجه محسن حلمى.
 وعلى الرغم من الانتقادات التى قد يوجهها البعض، للمسرحية متسائلين، عن المنطق فى اختيار أوبريت عتيق، كتبه التونسى منذ 80 عاما، لتحقيق غرض سياسى معين وقتها، لذلك لابد هنا أن نتوقف ونتأمل المنطق فى الاختيار، فمن المؤكد أن هذا العمل منزه عن أى أغراض سياسية، تخص الواقع الحالى، وبالتالى لن يبقى أمامنا سوى الغرض الفنى البحت، فهذا الأوبريت الغنائى الممتع، يعتبر تحفة فنية سواء على مستوى الكتابة المسرحية أو المقاطع المغناة، كما أنه كشف مدى التراجع، فى فن الكتابة المغناة، بحرفة وعمق، فعندما تتأمل عرضا مثل «ليلة من ألف ليلة»، ستدرك أننا نعيش فى حالة من التحجر الفكرى والفنى، فى احتراف الكتابة المسرحية الشعرية، وبالتالى عند تقييم عمل بهذه القيمة، لابد من تجاوز التقييم الزمنى له، لأنه يضعك دون أن تدرى، فى حالة من التأمل والتفكير، فى وضع الحركة المسرحية الحالية، خاصة فى كتابة هذا النوع من الدراما، التى من الأجدر ألا نخرج عن حدود، التقييم الفنى لها، لأن هذه النوعية من الأعمال تحتاج إلى موهبة حقيقية، صادقة، محبة وعاشقة، بقدر احتياجها إلى إمكانيات مادية وميزانيات ضخمة.
وكان هذا هو حال الراحل بيرم التونسى والموسيقار أحمد صدقى، أثناء صناعتهم للأوبريت، فعندما تستمع إلى الكلمات والحوار المكتوب، تشعر بمدى صدق وحب صناع هذا العمل له، فهو مزيج ممتع بين الغناء والدراما، نسجها بيرم فى حدوتة بسيطة، تصلح لكل العصور ولكل الأعمار، ومن منطق الحب والفن اختار الفخرانى تقديم هذا العرض، على خشبة القومى اليوم، وكأنه أراد أن يعيد احياءه، بمسرحية محكمة فنيا، على كل المستويات سواء الممثلين، والذى تقاسم معهم البطولة، فالجميع اتحد لتقديم لوحة فنية جميلة، غير متكررة كثيرا، كما كان لافتا عدم استحواذ نجم العرض، على العمل من بدايته وحتى نهايته، فلم يكن الفخرانى حاضرا طوال العرض، بل يظهر فى مشاهد، ويختفى فى أخرى، وكأنه عمل جماعى، شاركه فى بطولته، كل من هبة مجدى ومحمد محسن وسلمى غريب وضياء عبد الخالق ومى حمدى وخالد جمال وهشام الشربينى وعماد العروسى وحسام الشربينى، وكذلك الفنان لطفى لبيب الذى لم يتعد ظهوره سوى ثلاثة أو أربعة مشاهد بالمسرحية، فبرغم أن عدد الفنانين المشاركين فى العرض ضخم، إلا أنك لا تشعر بهذا العدد الكبير، إلى جانب تصميم الأزياء لـ«نعمية عجمي»، والذى كان من أكثر عناصر العرض ظهورا، فاستطاعت عجمى أن تخطف عيون الجمهور، بأزيائها المتقنة الصنع كعادتها دائما، وكذلك ديكور العرض لمحمد الغرباوى والاستعراضات، فلم يغفل المخرج محسن حلمى، ولم يتغاض عن أى تفصيلة ولو كانت صغيرة، بهذا العمل المسرحى المميز، الذى أعاد للمسرح هيبته ووقاره من جديد.
من المعروف أن أوبريت «ليلة من ألف ليلة»، سبق وأن قدمه الفنان يحيى الفخرانى عام 1994، على خشبة مسرح الجمهورية مع المخرج محسن حلمى وبطولة أنغام وعلى الحجار، كما قدمه عزيز عيد وفاطمة رشدى فى الخمسينيات، ثم أعيد تقديمه عام 1974، ولعب بطولته وقتها الفنان كارم محمود لكن نظرا لإصابته بوعكة صحية، قدمه الفنان على الحجار بدلا منه، وبالتالى تعتبر هذه هى المرة الرابعة، التى يعاد فيها تقديم عرض «ليلة من ألف ليلة».
كتب بيرم التونسى «ليلة من ألف ليلة»، عندما قابله عزيز عيد فى فرنسا وطلب منه، أن يكتب له مسرحية مقتبسة، من نص أجنبى وسيمنحه 20 جنيها، وبالفعل وجد بيرم النص الأجنبى وهو «لو كنت ملكا»، واقتبس منه أحداث مسرحية «ليلة من ألف ليلة»، وقدم عزيز عيد الأوبريت فى القاهرة، ونجح نجاحا كبيرا، ثم طلب بعدها من بيرم التونسى، أن يتفرغ للكتابة له ولفرقته المسرحية وسوف يستمر فى إرسال النقود له دون انقطاع.
من المعروف أنه كان قد صدر قرار، بنفى الراحل بيرم التونسى عام 1920، وعودته إلى بلدة أجداده تونس، وكان سبب الإبعاد غضب الملك فؤاد وقتها عليه، بسبب قصيدته «البامية الملوكى والقرع السلطاني»، لكن الإدارة التونسية ظلت تضعه تحت المراقبة منذ وصوله، فقد أشيع عنه وقتها، أنه أحد الثائرين فى مصر ضد إنجلترا، وبالتالى لم يستطع ممارسة أى نشاط صحفى أو سياسى طوال فترة إقامته هناك، لذلك بدأ فى البحث عن الأعمال التى تحتاج إلى قوة بدنية، وعمل فى بعض المحلات التجارية، لكن نظرا لأن البوليس فى تونس، أفرط فى تضييق الخناق عليه، قرر المغادرة إلى فرنسا، وما أن وصل ميناء مرسيليا، حتى انتقل إلى باريس التى شعر فيها، بقسوة الغربة ولسعة البرد الشديد، والتحق هناك بأحد مصانع الحديد والصلب، لكنه تركه بعد أن تعرض لحادث سقوط حديدة على فخذه، ولم يستطع الحصول بعدها على عمل بسهولة، وواجه أزمة فى تقليص عدد وجباته اليومية، حتى أصبحت وجبة واحدة، بسبب شدة تأزم وضعه المالى بفرنسا، وبعد فشله فى العودة إلى مصر من جديد وإصرار السلطات على طرده، عاد إلى فرنسا للمرة الثانية، وعمل شيالا لصناديق البيرة وحقائب المسافرين!!
لكن رغم هذه المعاناة النفسية والبدنية، التى تعرض لها بيرم التونسى طوال حياته، وحتى وفاته عام 1961، إلا أنه كتب أوبريت «ليلة من ألف ليلة»، بهذا الشكل الممتع والمبهج، وغيره الكثير من الأعمال مثل منولوجاته «هاتجنن ياريت يا اخونا مارحتش لندن ولا روحت باريس»، «يا أهل المغنى دماغنا وجعنا»، «يا حلاوة الدنيا يا حلاوة»، «ياللى تحب الفن وغاوى»، وأوبريت «شهر زاد»، و«عزيزة ويونس»، و«سيرة الظاهر بيبرس»، وأوبريت «يوم القيامة»، و«حكايات السيرة الهلالية»، ومن أشهر أقواله.. «الأغنية مدرسة، تستطيع أن تعطينا قيما سليمة، أو تدس لنا سموما خبيثة، فهى أخطر أداة للنشر فى هذا العصر، والمحزن أنه لا أحد يدرك أو يقدر خطر الأغنية على الناس، لا المؤلف ولا الملحن ولا المطرب»!!