الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

لا وقت للتراجع

لا وقت للتراجع
لا وقت للتراجع




كتب - د.محمد محيى الدين حسنين

 

دعونا نعترف أننا دخلنا منذ نحو نصف قرن من الزمن إلى دائرة مفرغة من الانتكاسات، فبعد أن كانت مصر فى بداية القرن التاسع عشر قبلة لليابانيون يدرسون سبب تقدمها وبعد أن كانت فى اوائل الستينات من القرن المنصرم نموذجا للتقدم حاول الكوريون مضاهاته، شهدت مصر مرحلة من الهبوط وتراكمت الازمات فيها حتى اصبحت ككرة الثلج يزيد حجمها كلما انحدرت إلى اسفل.
وكما أن المتقدمين يزدادون تقدما فان المتخلفين يزدادون تراجعا ودعونا نتفق أن التراجع هو صناعة محلية وحدث ذلك بالتسلسل والتوازى لتطورات سلبية ولأن الدائرة يصعب علينا أن نضع يدنا على بدايتها الا اننا يمكن أن نبدأ بما حدث فى أوخر الستينات من القرن الماضى وربما يرى البعض أن الامر يرجع إلى أبعد من ذلك نتيجة لعدد من السياسات التى اتخذت قبل ذلك بعقود.
دعونا نتذكر أن بناء مشروع السد العالى، والذى يجب أن نعترف انه من اهم منجزاتنا القومية على الاطلاق، استنفد جزءا كبيرا من مخزون وإنتاج مواد البناء وخاصة الاسمنت ثم تلى ذلك حرب الاستنزاف العظيمة على الجبهة وبناء دشم الدفاع الجوى فى أواخر الستينيات لتأتى على البقية الباقية من تلك المواد وهنا بدأت أزمة الاسكان نتيجة لقلة المعروض وارتفاع التكلفة ودخل المصريون إلى المقابر يعيشون فيها ولما ضاقت عليهم مع الانفجار السكانى بدأوا فى بناء عشوائيات لتتكاثر وتنتشر فى طول البلاد وعرضها وحتى بعد أن قررت مصر الدخول إلى عصر الانفتاح ونتيجة لجمود قوانين الايجارات أصبح تمليك المساكن وما يسمى بالايجار الجديد يستهلك مدخرات الشباب ودخولهم المحدودة ومن ثم عزوف الكثير منهم عن الزواج وما ترتب على ذلك أقلها العنوسة وارتفاع نسبة الطلاق.
وبالتزامن مع الانفجار السكانى وانتشار العشوائيات والتوقف عن إقامة مدارس حكومية جديدة ومع التزام الدولة بمجانية التعليم، تكدس الطلاب فى الفصول ليصل المتوسط من 60 إلى 80 طالبا فى الفصل الواحد مما ادى إلى أن تكون العملية التعليمية تتم بشكل صورى، وفقد التعليم فى مصر والذى كان مفخرة لها، ليتحول إلى مشكلة يتم حلها بمسكنات واعطاء رجال الاعمال الضوء الأخضر ليكملوا النقص فى المدارس والجامعات وتحول التعليم إلى تجارة يستفيد منها المدرسون عن طريق الدروس الخصوصية ويحقق رجال الاعمال أرباحا خيالية على حساب جودة التعليم.
دفعت صحة المواطن المصرى فاتورة الاهمال وتدنى مستوى التعليم واكتظاظ الاحياء السكنية والتلوث السمعى والبصرى وانتشار القمامة فى كل مكان ومن ثم عجزت المستشفيات الحكومية عن تقديم خدمات صحية معقولة ومرة أخرى يدخل القطاع الخاص ليحول الصحة إلى مصدر للتربح على حساب جودة العلاج والاستشفاء ومن التلوث إلى المرض إلى تنامى فاتورة العلاج وبدأنا نعانى من أمراض صارت كالأوبئة مثل فيروس C، والاورام وكلما حاولنا سد ثغرة فتحت ثغرات.
والقت مشاكل الاسكان والتعليم والصحة بظلالها على القوة الناعمة فى مصر، ففقدت ريادتها الثقافية واختفت القدوة فى حياة شبابها واختفت معها قيم العمل والعصامية لتحل محلها قيم البلطجة والتربح بأى وسيلة، وقد تبدو الصورة قاتمة والمشاكل مستعصية لكن الحل ليس مستحيلا ولنا امثلة فى دول جنوب شرق آسيا التى تغلبت على مشاكل اسوأ مما تعانيه مصر وان تتحول إلى نمور اقتصادية تنافس الغرب وتتفوق عليه.
وحتى لا يداهمنا الوقت، وحتى نكسر تلك الحلقة المفرغة ونوقف دورانها، علينا أن نتخذ قرارات صعبة واجراءات حاسمة واذا كان من الصعب أن نعالج مشاكلنا دفعة واحدة فان التركيز على ثلاثية (التعليم والبحث العلمى والتدريب) يمكن أن تشكل مخرجا مناسبا للمعضلة، ونحن هنا لن نخترع العجلة ويكفينا أن نعيد التعليم إلى سابق عهده عندما كانت المدرسة تقدم تعليما حقيقيا يدفع الطالب مقابله رسوما دراسية معقولة بدلا من دفعها للمراكز التعليمية وتجار المدارس الخاصة وعندما كانت البعثات للخارج متاحة على اوسع مدى تفتح عيون باحثينا على أحدث ما فى العصر من تكنولوجيا ومعرفة، وعندما يعود التدريب إلى سابق عهده ويعطى الاهمية القصوى ويزيد من فاعلية وانتاجية العمالة فى كل القطاعات الانتاجية والخدمية
أن يصل قطار التقدم متأخرا خير من ألا يصل على الاطلاق.