الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

التفريط فى الآثار والحفاظ على القمامة!!

التفريط فى  الآثار والحفاظ على القمامة!!
التفريط فى الآثار والحفاظ على القمامة!!




 كتب: عاطف بشاى

بعد مرور أكثر من عام على اندلاع ثورة يونيو التى أطاحت بحكم الإخوان.. وفى ظل حكومة ترى أن وزارتى الثقافة والآثار «ملهمش لازمة» تتدهور أحوال الثقافة والفنون ويبدو وكما لو أن هناك مؤامرة لتدمير هويتنا


خاطبت وزير الثقافة الأسبق «فاروق حسني» من أكثر من عام قبل ثورة 25 يناير أطالبه مخلصا أن يصدر قرارا وزاريا بتحطيم تمثال «نجيب محفوظ» المقام فى ميدان «سفنكس» ليس استجابة لممارسة متطرفى «طالبان» أو لفتوى شيوخ التطرف السابقة بتحريم فن النحت، أو تماشيا مع تخلف الدعوة إلى تكفير الرجل.. ولكن استنكارا لسوء التجسيد الفنى.. وافتقاره إلى أبجديات العمل النحتى وأصوله ونسبه.. فالتمثال يبرز «نجيب محفوظ» كضرير يرتدى نظارة تخفى عينيه التى كانت تعبر بجلاء ونفاذ عن عمق فكره وعظمة رؤيته للواقع المصرى.. والتمثال أيضا يبرزه ممسكا بعصا وكأنه ضرير يتحسس بها طريقه.. ويخلو من الجمال الفنى فى القدرة على التعبير عن شخصية الكاتب الكبير.. ويعكس ضعف موهبة المثال وفقر إحساسه الفنى، وجهله الفادح بقيمة وقدر ومكانة الكاتب الكبير الذى بدا وكأنه كاريكاتير سيئ لرسام مبتدئ.. فأصبح وكأنه شاهد على الإساءة ليس فقط للعظيم «نجيب محفوظ» ولكن لفن النحت ذاته.. مثله فى ذلك مثل تمثال «د. طه حسين» برأسه الصغير كبيضة، وردائه الغريب وقدميه الحافيتين.. وتمثال «أحمد شوقي» الذى يجلس منحنيا فى وضع غريب وكأنه يقضى حاجته..
ويبدو أن هذه التماثيل قد قام بنحتها مثال واحد فهى تتشابه فى فقر ثقافة النحات وسطحية تناوله.. وهو ما يدعو إلى التساؤل: هل عقمت «مصر» من مثاليها الكبار حتى يعبث الصغار برموز ثقافتنا المعاصرة؟!
لم يستجب وزير الثقافة الأسبق، مصرا على مقولته التى كان يرددها دائما وهى: من أين أتى بمختار جديد؟!.. ثم كررت مخاطبتى تلك للدكتور «صابر عرب» دون جدوى.. بل أنه ترك تثمال «طه حسين» فى مسقط رأسه بالمنيا يحطمه التكفيريون دون أن يحرك ساكنا اللهم أنه وعد بسرعة نحت تمثال آخر بديلا له يوضع فى نفس المكان.. لكنه ما لبث أن تراجع عما وعد به وهكذا ظل التمثال حتى يومنا هذا قائما بلا رأس شاهدا على خيبة وتخاذل وهوان همة وعجز إرادة تسير فى ركب «جوقة العميان»، كما نعتهم «نزار قباني» الذين كفروا نور البصيرة لأحد رواد التنوير العظام فى عصرنا الحديث.
والحقيقة أنه - وقبل وصول الإخوان إلى الحكم - بأكثر من عشر سنوات.. والظلاميون المكفرون الذين يكرهون الفنون ويشيعون ثقافة الحلال والحرام والتجريم والمصادرة من خلال فتاويهم السامة قد أثروا تأثيرا خطيرا فى العامة الذين اعتبروا أن تلك الخزعبلات أوامر ونواهى دينية ومسلمات فقهية لا تقبل المناقشة والمراجعة مما دفع سيدة ملتاثة منذ فترة أن تقفز سور فيلا متحف المثال «حسن حشمت» وتحطم أحد التماثيل الموجودة فى حديقة الفيلا باعتبار أنه صنم.. بل إن المفارقة المؤلمة التى كنت أتصور أننا لا يمكن أن نشاهدها إلا فى مسرح العبث أن بعض أساتذة قسم النحت فى كلية الفنون الجميلة يؤمنون بذلك إيمانا راسخا ويعترفون للطلبة أن النحت حرام.. ولكنه أكل العيش هو الذى جعلهم يقومون بتدريسه.. طالبين من الله العفو والمغفرة..
وفى ظل تنامى التيارات السلفية والوهابية بعد وصول الإخوان إلى الحكم وتصاعد نشاط التكفيريين الذى وصفوا الحضارة الفرعونية بالعفن لم يكن غريبا أن يطالب الشيخ «مرجان الجوهري» بتحطيم الأهرامات وتمثال «أبو الهول» باعتبارها أوثانا تعبد حتى الآن.. وهكذا أرادوا العودة بنا إلى عصور سحيقة من التخلف والجهل بسطو صريح على عقل أمة وتراث شعب.. وتاريخ حضارة باعتبار أن التماثيل محرمة لأنها صنعت للعبادة أيام الجاهلية وليست فنونا راقية تجسد أفكارا سامية وإبداعات إنسانية عظيمة.
والآن وبعد مرور أكثر من عام على اندلاع ثورة يونيو التى أطاحت بحكم الإخوان.. وفى ظل حكومة ترى أن وزارتى الثقافة والآثار «ملهمش لازمة» تتدهور أحوال الثقافة والفنون ويبدو وكما لو أن هناك مؤامرة لتدمير هويتنا والإجهاز على روحنا الإبداعية.. فنحن - وبأيدينا - وليس بمعاول هدم إرهابى «طالبان» - تترك آثارنا نهبا للإهمال المدمر تحت تأثير مياه الصرف الصحى أو بلصق ذقن «توت عنخ آمون» «لأوهو».
وبعد انتهاء المهلة التى حددتها وزارة الثقافة البريطانية لمنع تصدير تمثال «سخم كا» الذى ينتمى للأسرة الخامسة الفرعونية للإبقاء على التمثال فى بريطانيا وعدم بيعه لسيدة قطرية تقدمت المستشارة «تهانى الجبالي» ببلاغ للنائب العام تتهم فيه وزير الآثار «ممدوح الدماطي» بالبطء فى اتخاذ إجراءات استرداد التمثال.. وتحمله المسئولية كاملة عن كوارث ما يحدث للآثار المصرية.. ولم تتمخض قريحته إلا بفضيحة مطالبته بجمع تبرعات من المواطنين لشراء التمثال مرة أخرى.
نحن نفرط فى تاريخنا وحضارتنا ونتساهل فى تبلد وجهل بكنوزنا الفنية.. لكننا نحافظ بجدارة على تلال القمامة فى كل ميادين وشوارع المحروسة.