الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

المُبدع «المُشاغب»

المُبدع «المُشاغب»
المُبدع «المُشاغب»




 

إعداد - سوزى شكرى

حين تأتى ذكرى مولد فنان راحل أو ذكرى رحيله اعتدنا الكشف عن مشواره الفنى وانجازاته وعطائه الذى قد يسجله التاريخ ويوثقه بأمانه أو قد يغفل عنه مثلما حدث مع آخرين، واليوم نعود بالذكرى والذكريات سنوات للوراء وقد مرت منذ أيام قلائل الذكرى الخامسة لرحيل الفنان «محيى الدين اللباد» (25 مارس 1940ـ 4 سبتمبر 2010) وهو ابن مدرسة روزاليوسف فى الرسم الصحفى وأحد عباقرتها ضمن جيل الستينيات إلى جوار جمال كامل ومأمون وإيهاب وحجازى وهبة عنايت والليثى ورجائى ونيس وبهجت عثمان ومحمد حجى.
«اللباد» صاحب تجربة ثرية ومتنوعة حين حاولنا حصرها ما بين فن الكاريكاتير والفن التشكيلى وفن تصميم الأغلفة ورسوم الأطفال وجدنا أنفسنا أمام حاله إبداعية مشاغبة متمردة مهما حاولنا وصفها نجدنا مقصرين فى تعريفها.
تحدثنا مع الفنان التشكيلى «أحمد اللباد» الابن الذى فقد على حد قوله الأب والأستاذ وصديق العمر، كما تحدثنا مع الفنان التشكيلى عصمت دواستاشى الذى اختار الحديث عن «اللباد» من خلال أهم إصداراته وهو كتاب «نظر» وما تعرض له من معوقات إلى حين صدوره.

 التشكيلى أحمد اللباد: ياله من نموذج كأب وياله من مثال كأستاذ
 ليس بالأمر السهل أن أتذكر «اللباد» فى عبارات معتادة، فقدانه يفوق كل الكلمات مهما كانت عميقة فهى أقل بكثير من إحساسى بغيابه، فأنا منذ رحيله أشعر بارتباك وأتحايل على ذاتى محاولاً تصديق رحيله، هو أبى وأستاذى وصديق عمرى، ويقولون إنه رحل..!
 «الشئ الوحيد الذى أخافه هو الموت»، هكذا  كان يصرِّح «اللباد» الشجاع للنهاية عدة مرات، أفهم الآن تمامًا ذلك الخوف؛ فأنت من طرحت على نفسك طوال الوقت مهمة عداوة العدم، أسست بدأب وصبر وتراكم مشروعًا كبيرًا، وبشكل منهجى وببصيرة ذكية نافذة كسبت أراضًا شاسعة لصالح ثقافتنا وثقتنا فى تراثنا وفى قدراتنا وأنفسنا، بدون عنصرية المقهور الذى يتعامى عن احترام منجزات الثقافات الأخرى، أو الذى ينهار تحت أقدامها.
ويأتى الموت كعادته دون موعد سابق ثم تحاصرنا الذكريات وتقتحم أيامنا، من المفارقات أن الذكريات تأتى بشذرات من أزمنة شتى أرى فيها «اللباد» يتحرك وينتقل بحرية متغيرًا فى عمره وهيئته ومزاجه وتعبيراته، وتبدو ملونة بلفحات غير واقعية، ولتزيد الذكرى عليك المرواغة تُغطى المشاهد بحاجز شفاف يراوح الصوت، وتتمايل على سطحه مياه كثيفة تحجب أحيانًا، وتُفسر أحيانًا أخرى وتحاول أنت أن تقبض على قوام لتلك الرؤى متحسرًا عليها وهى تتداعى - فى كل مرة - من بين أصابعك.
كثير ولهم كل الشكر والتقدير عبروا بعبارات رائعة  وصادقة عن رحيل «اللباد» ولكنى بشكل شخصى حسدتُ الأستاذ «عباس بيضون» بشدة على تشبيهه  فى مقاله عن موت اللباد بـ«هويّ شجرة استوائية»، وغِرت منه لانفعال كان ولايزال «هويّ شجرة استوائية» ولى أن أقول أن تلك الصدمة هزتنى على المستوى الشخصى قد خلخل – كذلك – كيان معارفه وتُبّاعه ومتابعيه.
لم يعد المشهد كما كان. اختفت الشجرة العملاقة، وأصبح الضوء اللطيف الذى يتلاعب بظلال الغصون ساطعًا لا يُطاق، وفقدنا علامتنا الكبيرة التى كنا ننطلق من عندها مرتحلين أو إليها عائدين صار المكان موحشًا وبات – ياللحسرة – يشبه كل الأماكن، لم أصل – أبدًا – لذلك النفاذ فى تعبيرى عن فقده.
 فأنا لم أفقده فقط كأب: حنون، مستوعب، قادر وواسع الأفق، بل خسرته كصديق: متفهم، ناصح وأمين أبدًا، وفقدته – أيضًا – بفداحة خسارة المهنى لشيخ مهنته الأكبر والحبيب، ياله من نموذج كأب.. وياله من مثال كأستاذ، فى كل لقاءاتنا كنت أتحرك بمشاعرى بين الابن المعجب، والصديق المنبهر برفيقه الأجدر، والمُريد الذى لا يريد للوقت أن يمر فى صحبة شيخه. وسأظل ممتنًا وحامدًا لتلك الفرصة النادرة التى أتاحت لى القرب الطويل من ذلك الرجل.
«اللباد» كان يفتخر بلقب «صانع الكتب» – من معرض كتاب عربي، وبالأخص فى بيروت، المدينة التى أحبها وآمن بقدراتها ليجتمع محبو وأصحاب محيى الدين اللباد حول سيرته.
رسم اللباد وألف للكبار والصغار، وترجم، ورسم الكاريكاتير، وصمم الكتب والجرائد والمجلات، وخلّق حروف الطباعة الحديثة، وبحث، وناقش، وأقام المعارض وورش العمل، وعرض، وحاضر، وعرّف بالآخرين فى كتاباته وكتبه ولقاءاته.
عمل وارتاح، سافر وعاد ، حزن وفرح ، وكسب وفقد.. ولم أره فى حياته بتفاصيلها البسيطة، ولا فى عمله على الوسائط العديدة التى تحقق فيها وحقق أفكاره، ولا فى مواقفه الاجتماعية أو السياسية إلا واحدًا، شخصا واحدًا، هو نفسه بذات الانحيازات المبدئية، الفنية والأخلاقية والعقائدية.
«وكما أردت لأعمالك ستظل الكتب الموجهة لليافعين مثل: «كشكول الرسّام» و«ملاحظات» و«تى شيرت» و«حكاية الكتاب»، أو«البيت» و«الفيل يجد عملًا» و»بيت صغير للورقة البيضاء» و«من القلب للقلب» وعشرات الكتب والملصقات التى لا يتسع الوقت هنا لذكرها. وكذلك الموجهة للكبار كألبومات «نظر» بأجزائه الأربعة التى ضمت مقالاتك اللماحة وغير المسبوقة عن الفنون البصرية المحلية والعالمية. وكتاب الكاريكاتير «مائة رسم وأكتر». وآلاف الرسوم الكاريكاتيرية المنشورة والتصميمات التحريرية المتنوعة للمطبوعات فى مصر والعالم العربي.
ستظل تحرضنا على الرؤية من زوايا مختلفة، وعلى عدم الارتكان للدارج السهل، وعلى مراجعة الثابت المكرر، وعلى النفاذ للجوهر ومحبة الإبداع الحقيقى بدون تقديس أو تسليم للسائد، وعلى مواجهة النتائج المتعجلة الأولى ومواجهة الادعاء والاستنساخ والتبعية والرقاعة والتنطع الفكرى والفني.
نقلت لنا – عبر أعمالك – بصوت خفيض ولكنه عميق وواثق رسائل تدفعنا لنتفاعل مع العالم بصرامة فى احترام العمل والتفرد والاختلاف، وبشكل أكثر حنانًا وتفاؤلًا بالمستقبل.
فى عز أزماتك كنت أراك مستبشرًا، تنظر للأمام، ولأنك سخىّ كنت تُعبِّر بامتنان عن كرم الحياة معك، وتذكر بتواضع أنها قد أعطتك بما قد يزيد. وكنت تتساءل دومًا عن إنك يا ترى هل قد قدمت لها ما يليق وما يستحق؟.
أقول لك إن الشجعان الحالمين يذهبون لحفر جدول أو نهر، وأنت ذهبت وحفرت بحرا.
الفنان التشكيلى عصمت دواستاشى: أسطى الرسم أغلق كشكوله ورحل
حين يسألونى عن اللباد هل رحل؟ أقول نعم رحل ولم يرحل..!  دائما ما يزعجنى أن يرحل أصدقائى وخصوصا من كان يربطنى بهم صداقة قوية ومشوار وتاريخ وذكريات كفاح، بعض الذكريات تدخلنى على المستوى النفسى فى حاله صعبة، لكنى أكون سعيد وفخورا بهم وأنا  أحكى عن إنجازات أصدقائى فجميعا حين نرحل نترك ما انجزناه، الفنان محيى الدين اللباد، أسطى الرسم الذى أغلق كشكوله ورحل، ولم يحصل على حقه فهو يستحق التكريم مدى الحياة.
من أهم كتبه «نظر» كتاب هام وفريد ومميز، فى اعتقادى أنه الأول من نوعه فى المكتبة العربية؛ وأنه مدرسة متكاملة تفيد الفنان التشكيلى كما تفيد المتذوق للفن، والمثقف بصفة عامة لما يحتويه من معلومات شاملة فى الحياة، رغم واجهته التخصصية فى فن الرسم، هذا الكتاب الذى قوبل بالصمت، ربما لعدم الفهم، والأصح لقلة النظر، رغم أنه كتاب جدير بأن يكون فى مكتبة أى إنسان، بل أنى أنصح من ليست لديه مكتبة أن يبدأ بهذا الكتاب.
وعن ما تعرض له « اللباد» من حزن واكتئاب حدثنا «دواستاشى» : كان يشعر بالحزن عند نشر موضوعاته فى مجلة صباح الخير، أو بعد طبعها فى كتاب خوفا من ألا تجد قارئها، وصلتنى منه رسالة شخصية أرسلها لى بخصوص طبع الكتاب  وهى أول رسالة أتلقاها منه يقول فيها : «منذ أسابيع أصابنى يأس شديد، وتسلل الإحباط إلى جلدى، وفكرت أن انشر فى المجلة التى أعمل بها عموداً فى آخر الباب أطلب فيه من القراء الذين يطلبون (نظر!) أن يكتبوا لى رسائل، فإذا اجتمعت عندى مائة رسالة من تلك الرسائل سأواصل العمل بحماس، لأنى فى بعض اللحظات أعتقد أن لا أحد يهتم بتلك الصفحات، لم أفعل ذلك أيضاً لقلة الهمة».. ومن خلال كتابه شجع بعض القراء والزملاء والأصدقاء الفنان اللباد على هذه الخطوة الجريئة، ولولا تهور الناشر، وجنان مؤسسة «روز اليوسف» (حسب تعبيرات اللباد) حيث كان يعمل بها رساما، لما نشر هذا الكتاب،  حين اصدر الكتاب كتب فى نهاية المقدمة يقول اللباد : «أنه سيتحمل المسئولية عن المساءلة بالكامل»، وأنه جدير بتحمل هذه المسئولية»
وعن فصول الكتاب قال «دواستاشى»: الكتاب عبارة عن كم هائل من الرسوم من أنحاء الدنيا مقدمة بتعليق من الفنان اللباد فى شكل أدبى رفيع، وسوف اصف بعض الصفحات المميزة فى كتاب «نظر» والتى بين الحين والحين أطالعالها، فى صفحات بيضاء تماما تركها عن قصد ولها هدف.
فى إحدى لوحاته رسم زجاجة قطرة بها عين تحتها كتب اللباد وبالإنجليزية Eye Drops، وفوق الزجاجة كلمة (نظر!) . وقد يعنى ذلك أن قطرة اللباد هى النافعة للعين وللنظر، وأنا أرى أن العين المصرية فى حاجة لقطرة تجلى النظر من اكتشاف عيوبنا وتعدلها بعد النظر .
وفى إحدى رسوماته تحت عنوان (هذا العمل) وهى مقدمة للمؤلف، يقول فيها إن هذا الكتاب: «..ليس كتابا بالضبط، بل هو ما يسمى فى بلاد أخرى – ألبوم، ويعطى هذا الاسم هناك للمطبوعات التى تجمع أعمالا (وبالذات المصورة أو المرسومة) نُشرت من قبل فى مجلات وصحف، تطبع كما هى طمعاً فى جمهور قد مه اقتناؤها مجمعة..
ويكمل «دواستاشى حديثه: ويضم هذا الكتاب أو الألبوم ما سبق نشره فى مجلة صباح الخير منذ بدأ ظهور الباب (نظر!) فى منتصف أغسطس 1985 حيث ذكر «سيكون كشكولا عن الأعمال والنشاطات التى تتوجه إلى العين.. سواء كانت محلية أو أجنبية.. سيهتم بلغة البصر التى يمكن أن يتواصل بها كل الناس على اختلاف لغاتهم الشفهية والمكتوبة، لن يكون بابا للمتخصصين، ولا نظريا، ولا بابا للنقد التشكيلى».
أتذكر إحدى صفحاته الرائعة وبها معان ومفاهيم «اللباد» خفيف الظل حين كتب عنوانًا فرعيًا للكتاب بيت شعر من تأليف بشارة الخورى، ولحن غناء محمد عبد الوهاب، وتفسير اللباد، وبيت شعر يقول «إن عشقنا فعذرنا إن فى وجهنا نظر!».
 ولأنه كتاب حافل ثرى بموضوعاته، فلا يمكننى أن أقدمها جميعها، واستشهد بالفهرس الذى يؤكد انه كتاب فريد  ومن موضوعاته كتب عن بيكاسو والكاريكاتير، الشيوعيون يضحكون، جمل (بفتح الجيم والميم) وكمبيوتر، المهرج رئيسا، عبر السميع رساما - العربى القبيح ، ثقافة الطفل: ومن موضوعاته: طرزان - هل هو عدو أم صديق؟؛ الفأر القومى؛ المفاتيح مع العيال؛ كتاب مرسوم للأطفال العميان؛ الفرخة لها بيت، والشاذلى القليبى له بيت، والكاتب والرسام ليس لهما بيت. الخط العربى وتصميم الحروف: ومن موضوعاته حروف معبرة - الطغراء قمة الجمال فى الخط العربى - الخط مسألة سيادة. إخراج وتصميم الصحف والكتب: ومن موضوعاته: ثوب الجريدة القشيب - تقاليد جميلة فى الكتابة العربية - هؤلاء الرسامون ورسومهم البذيئة .
وفى باب رسم وسامون كتب عن الفنانين (نبيل تاج - صاروخان - شافال الفرنسى - أنور (اليابان) - جورج البهجورى - الناصر الخمير (تونس) - عبد السميع - سعيد العدوى - صلاح جاهين - فؤاد الفتيح (اليمن) - ماهر - قاسى (الجزائر) - سول ستاينبرج أو بيكاسو الكاريكاتير (أمريكا) وغيرهم.
وبالكتاب مجموعة كبيرة من الرسوم الكاريكاتورية للفنان اللباد، وهى رسوم مميزة بنقدها الاجتماعى والسياسي، وتنشر فى كثير من المجلات بمصر والخارج..ومن القضايا التى تعرض لها اللباد اشار « دواستاشى»:  قد عانى اللباد فى الآونة الأخيرة من نشر رسومه دون أخذ إذن منه مما سبب له ذلك كثيرا من الأضرار حتى أنه لجأ أخيرا إلى كتابة عباراة «حقوق الرسم محفوظة للرسام « إلى جوار رسومه الكاريكاتيرية، والعبارة فى حد ذاتها نكتة، ولكن ماذا يفعل الفنان وهو يصرخ قائلا «الكاريكاتور - يا سادة - ليس دائما نقشا لطيفا تزين به الصفحات، أو تخفف به النصوص ثقيلة الدم، كما أنه ليس شخبطة سهلة تملأ بها الفراغات الماكيت؛ لكنه رأى. بل هو الرسام نفسه. ولا يملك أحد حق استعماله كيفما كان سوى صاحبه». واللباد يعلم أنه لا حقوق محفوظة للرسام فى الوطن العربى.. بل حتى الحقوق الحياتية فى أن يظل الرسام يرسم، غير مضمونه على الإطلاق.