الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الإسفاف للجميع

الإسفاف للجميع
الإسفاف للجميع




كتب -  عاطف بشاى

 

أعاد لى الأستاذ المنتج «حودة إسفاف» سيناريو فيلم سينمائى معتذرا عن انتاجه مؤكدا أن سبب رفضه هو أنه سيناريو محترم، وبالتالى لن يشاهده أحد، وقال لى وهو ينهض من خلف مكتبه متعجلا إنهاء اللقاء:
- لو عندك سيناريو مبتذل آخر فشخ ودعارة وشذوذ نسوان على رجالة ومخدرات والذى منه أبقى عدى عليّ يا شربات، طريقك زراعي.
وقبل أن اندفع خارجا فى غضب وإحساس بالغ بالإهانة، استوقفنى مرددا:
- وركز قوى فى «الذى منه» ربنا يكرمك يا معلم.
فى المنزل بكت زوجتى وانتحبت فى مرارة وذكرتنى بأيام الزمن الجميل أيام كان المنتج بمجرد أن أعرض عليه أحد سيناريوهاتى، يرسل نسخا منه لكبار النقاد المتخصصين يطلب منهم تقارير فنية تشمل رأيهم فى مضمون الفيلم وشكله الفنى وأهمية القضية التى يطرحها ومدى ملاءمتها للواقع الاجتماعى والسياسى، وهل يرتفع مستوى السيناريو للعرض فى المهرجانات الدولية، ومدى فرصته فى اقتناص جائزة .. و..
أكملت مجاريا:
- ثم يتعاقد معى ويتشاور حول أنسب المخرجين لتجسيد النص، وتبدأ الاجتماعات التى تشمل المؤلف والمخرج والمنتج، ومدير التصوير ومهندس الديكور لمناقشة النص ودراسة الاقتراحات لتدعيم البناء الدرامى، ثم اختيار الممثلين بمن فيهم الأبطال المناسبين للأدوار دون أى اعتبار آخر، ثم الشروع فى «البروفات اليومية»..
ثم هززت رأسى بأسى ورددت بصوت مخنوق:
- لم يعد أمامى سوى الاعتزال، لكن يبقى السؤال، هل أعلن ذلك من خلال وسائل الإعلام، أم..
قاطعتنى صائحة وقد انهارت تماما وزاد نحيبها:
- لأ، مش إنت اللى تستسلم، مش انت اللى تقبل الهزيمة، أين إرادة التحدى لديك يارجل ؟! أى عار أن تترك الساحة وتنسحب لتترك الأرزقية ولاعبى الثلاث ورقات والأوباش والسوقة، والأدنياء ومحترفى القبح لاجتياح الشاشة؟!
- كيف أواجه القبح وأعلن التحدى وأعمالى ترفض؟!
قالت مواصلة متجاهلة السؤال:
- ألا تعلم أن «سحس انحطاط» المؤلف المعروف يسرق الأفلام الهندية وينسبها لنفسه.. وأن «فتوح ديوث» يكتب له من الباطن «عبده سفالة» وهو من «مجهولى النسب» وبالكاد يفك الخط.
والاثنان - «سحس» و«عبده» - يشار لهما بالملايين؟! هل اتقلب الهرم حتى يصبح الموهوبون من أمثالك يعانون البطالة، بينما الكتاب أرباب «ثقافة الميكروباص» يرفلون فى نعيم الثروة والشهرة؟!
علقت بمرارة مرددا القول المأثور لـ«هيرمين هيسة» الفيلسوف الألماني:
لم الشعراء فى الزمن الضنين؟!
مسحت دموعها وغيرت فجأة نبرة صوتها وانتفضت واقفة وأمسكت بى من ذراعى بقوة وهتفت بحسم:
- لا بد أن تنازلهم ولا تغمد سيفك قبل أن تحقق نصرا مؤزرا، ولكى يكون النزال مؤثرا ومثمرا، عليك باستخدام نفس سلاحهم.
- مش فاهم.
جذبتنى من يدى واندفعت بى فى اتجاه حجرة مكتبى وطلبت منى الجلوس وقدمت لى رزمة من الأوراق وقالت آمرة:
اكتب فيلما مسفا.
نظرت إليها فى ذهول، بينما هرولت هى فى اتجاه باب الحجرة وقالت وهى تسرع بغلق الباب بالمفتاح من الخارج:
لن تخرج من هنا قبل أن تكتب فيلما مسفا.
شرعت مقهورا ومرغما فى كتابة معالجة درامية لسيناريو فيلم «مسف»، واستعرضت فى مخيلتى عددا كبيرا من الأفلام المصرية القديمة والحديثة الهابطة آملا فى أن أعثر على ضالتى المنشودة، وهى أن ألتقط فكرة تافهة أو مفارقة ساذجة أو حدثا مليودراميا فاضحا يتضمن مواقف أخلاقية مخزية أقوم بمزجها فى خليط من الأحداث المنفرة التى تعكس سلوكيات متدنية لبشر منحطين، ومشاهد تخدش الحياء العام والخاص، وتدور أحداثها فى مواخير حقيرة تكتظ بالعاهرات والقوادين والمجرمين، ويضطلع ببطولة الفيلم الثالوث الشهير «بلطجى وعاهرة ومطرب شعبى رخيص المستوى يهز مؤخرته فى تبذل.
وأثناء بحثى اكتشفت حقيقة يحاول الجميع تجاهلها وهى أنه رغم عراقة تاريخ السينما فى مصر «مصر» ورغم الأجيال الكثيرة المتعاقبة من الممثلين والممثلات الذين يبرز عدد كبير منهم بمواهبهم الرائعة فى الأداء، ورغم العدد الهائل من الأفلام التى انتجت منذ بداية صناعة السينما والتى تقدر بعدة آلاف فإنه من الملاحظ أن عدد الأفلام الجيدة الخالدة والمحفورة فى ذاكرة ووجدان الملتقى لا تزيد بأى حال من الأحوال على مائة فيلم أو أكثر قليلا، وأغلبها من إخراج عدد محدود من المخرجين المبدعين أمثال «صلاح أبو سيف» ويوسف شاهين» و«بركات» و«عاطف سالم» و«كمال الشيخ» و«فطين عبد الوهاب» و«عز الدين ذو الفقار» و«عاطف الطيب» و«داود عبد السيد» و«سعيد مرزوق» و«أشرف فهمي» وعدد محدود من كتاب السيناريو مثل «عبد الحى أديب» و«على الزرقاني» و«رأفت الميهي» و«يوسف جوهر» و«الإبياري» و«السيد بدير» و«وحيد حامد».
المهم، انتهيت فى وقت قياسى من كتابة المعالجة وقرأتها لزوجتى التى صاحت فى انبهار: رائعة، فيلم مسف عظيم الشأن إن شاء الله.
هرعت إلى المنتج، «حودة إسفاف» وقدمت له المعالجة التى قرأها وهتف فى سعادة : عظيم، معالجة مبشرة لفيلم «منحط» بامتياز ثم علق على العنوان متسائلا «البنت سعاد الشغالة وعمايلها البطالة؟! هل تقصد بـ«عمايلها البطالة» أنها لعوب منحرفة؟!
إذا لماذا لا نسمى الفيلم، البنت سعاد شمال، لقد صارت كلمة «شمال» منتشرة بين الشباب للإشارة إلى فتيات الليل والعاهرات (!!)
ثم أسرع بكتابة العقد ومنحنى عربونا محترما وسألنى: متى انتهى من كتابة السيناريو ؟! قلت: بعد ثلاثة أشهر على الأقل.
ضحك ساخرا وردد آمرا فى حسم: الآن.
نظرت إليه فاغرا الفاه فى أقصى درجات الدهشة، وقبل أن أنطق بكلمة بادرني: الموزع سوف يأتى غدا لتوقيع العقد ولا بد أن يكون السيناريو جاهزا.
ثم أسرع يجذبنى من يدى، ويجلسنى خلف مكتبه، ويضع أمامى رزمة من الأوراق وأقلاما ومبلغا آخر من من المال، وزجاجة ويسكى، ويهرول منصرفا مغلقا باب الحجرة بالمفتاح، مثلما سبق أن فعلت زوجتى.
بعد الكأس الثالثة اشتعلت أبلاتينة النافوخ وجرى القلم فوق الأوراق فى تدفق عجيب بمشاهد رخيصة وحوار بذىء، حتى كتبت نصف السيناريو وسقط رأسى على الأوراق فى إجهاد واستغرقت فى النوم.
استيقظت مفزوعا فى صباح اليوم التالى على ضوء لمبات إضاءة حارقة، وتلفت حولى فى ذهول وأنا أرى حجرة المكتب وقد تحولت إلى ديكور، والمكان يعج بحركة ممثلين، وفنيين ومدير تصوير خلف الكاميرا ومخرج يستعد لتصوير المشهد الأول من الفيلم، «البنت سعاد شمال» و..
نجح الفيلم نجاحا منقطع النظير وحقق أعلى الإيرادات، وتعاقد معى المنتج على كتابة مسلسل تليفزيونى عدد حلقاته «ثلثمائة حلقة».