الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

على سالم.. ومناضلو اللغو

على سالم.. ومناضلو اللغو
على سالم.. ومناضلو اللغو




كتب: عاطف بشاى

رأيت الكاتب الكبير «على سالم» لأول مرة فى منتصف الستينيات فى كواليس مسرح قصر الثقافة بكفر الشيخ.. وكنت مازلت طالباً بالمرحلة الإعدادية.. وكانت المناسبة عرض مسرحيته الأولى «الناس اللى فى السما الثامنة بمسرح القصر.. وأذكر أننى بهرت بالمسرحية وديكوراتها البراقة بشكلها الفنتازى الذى يرمز إلى أجواء الفضاء.. وفكرتها العبثية التى يفترض فيها المؤلف أن هناك مجموعة أطباء من كوكب آخر هبطوا إلى الأرض لغرض غريب هو انتزاع «غدة الحب» من أجسام البشر لتسود الكراهية وتنتشر البغضاء بينهم.. لكن الأطباء من سكان كوكبنا يتصدون لهم وينجحون فى النهاية فى دحرهم وعودتهم من حيث أتوا.. انتصاراً للحب.
بإعجاب بالغ هرعت إلى «على سالم» ومددت له يدى بأوتوجراف أذكر أنه كتب لى فيه عبارة «عاطف.. أرجو أن تظل دائماً محباً للفن والأدب.. «على سالم».
منذ هذه اللحظة وحتى رحيلى إلى القاهرة والتحاقى بالمعهد العالى للسينما وأنا أقرأ مسرحياته (التى وصل عددها فى النهاية إلى (27) مسرحية منها روائعة «عفاريت مصر الجديدة».. و«طبيخ الملايكة».. «ولا العفاريت الزرق».. وبكالوريوس فى حكم الشعوب.. و«أغنية على الممر» و«إنت إللى قتلت الوحش».. وعزبة الورد».. وصرت مع الأيام صديقاً له ونعمت به حكاء عظيماً ومثقفاً مفوهاً بالغ الذكاء والحكمة والسخرية.. بالإضافة إلى موهبته العريضة فى الإبداع المسرحى والكتابة النقدية.
كان يكره «الحنجوريين» والمتشدقين والأدعياء وانصاف الموهوبين.. وأذكر أن أحدهم ممن تقدم صفوف الأشرار الذين طعنوه بعد تأييده للتطبيع.. سبق وأن اقتحم علينا جلستنا معه فى مقهى «ريش» واشتكى له من المناخ الثقافى السيئ الذى يحيط بنا والذى لا يحتفى سوى بكتابات الأرزقية فقال له «على سالم» بسرعة خاطر وسخرية لاذعة: بالعكس.. دى فرصة إنك تكتب.
لم يرحل «على سالم» عن عالمنا منذ أيام.. ولكننا قتلناه منذ سنوات طويلة حينما رفض أن ينضم إلى الجوقة وأعلن تأييده للتطبيع «مع إسرائيل» وذهب لزيارتها وسجل قناعاته فى كتاب.. وقد رحل دون أن يحصل على جائزة الدولة التقديرية وهو يستحقها بجدارة.. بل لم يحصل على أى جائزة حكومية.. على العكس نال كثيراً من الأذى والضرر.. فقد كانت دعوته للسلام وبالاً عليه.. فكيف ينتهك مسلمات المثقفين ورسوخ ثوابتهم المقدسة.. كيف له أن يخلع عنهم أردية التدثر بالواجب تجاه الوطن.. ويفسد عليهم المتاجرة بالشعارات فتآمروا عليه وقصفوا قلمه.. وصادروا حقه فى التعبير.. وفى الحياة بفظاظة أشرار ذوى قلوب أسمنتية.. وعيون زجاجية.. طاردوه فى الشوارع والمقاهى التى كان يرتادها.. ورفضوا مجرد أن يمدوا أيديهم إليه بالسلام.. وضيقوا عليه الدنيا.. وقطعوا مصدر رزقه وفصلوه من عضوية اتحاد الكتاب وجمعية الأدباء ومنعوا مسرحياته من أن نرى النور.. حرموه من الكتابة ورفضوا حتى نشر مقالاته فى الصحف.. وكان أكثرهم معارضة له لا يستحق شرف الجلوس إليه وأكثرهم امتعاضاً واشمئزازاً من أفكاره ومواقفه هم معدومى الموهبة الذين يحقدون على فيض موهبته الطاغية..
لقد أصروا على عنتريات اللغو.. مثل «حانرميهم فى البحر».. و«أمجاد يا عرب أمجاد».. ولن نهدأ قبل أن ننتزع هذا الورم السرطانى من جسد وطننا العربى ونلقى به فى مزبلة التاريخ.. وهذا سوف يحدث بإذن الله كنتيجة حتمية لاحتقارنا لهم بعدم الاستجابة للتطبيع الثقافى معهم وحرمانهم من فرصة اختراقنا الفكرى واستيلاب ذخائر تفوقنا الحضارى فى مواجهة تخلفهم العلمى والثقافى فنحن – والحمد لله – نعيش فى كنف عصر التنوير والذى نعجز فيه عن حل مشكلة الزبالة واختلاط مياه الشرب بالمجارى وتفاقم العشوائيات والبطالة والعنوسة وأطفال الشوارع وسيطرة الخرافة والدجل والشعوذة والإيمان بالغيبيات على عقول الناس وكراهية العلم واحتقار المرأة فى إطار مشروعنا النهضوى الذى سيكفل لنا القضاء على «إسرائيل» التى يقوم مشروعها الاستراتيجى على التخطيط العلمى المستقبلى.. حيث اقتسمت عالمة الكيمياء الإسرائيلية «أدايونات» جائزة نوبل مع الأمريكان وهم يعملون فى معاهد علمية ومراكز بحثية عظيمة.. ويعتبر معهد «أيزمان» الذى يزوره كل عام أكثر من مائة ألف عالم باعتباره من أهم المعاهد العلمية فى العالم وإنجازات هذا المعهد الذى أنشئ عام 1934 فى الفيزياء والكيمياء والطب والكمبيوتر لا تنتهى ابتداء من علاج «اللوكيميا» حتى الكمبيوتر المتناهى الصغر مروراً بالعدسات وطرق استخدام اليورانيوم وأبحاث السرطان والطاقة النووية والنظائر المشعة.. أما معهد التخنيون فهو يضم مكتبة علمية من أضخم المكتبات فى العالم فى مجال علوم الكمبيوتر وميزانيتها ثلاثة مليارات دولار.. أما ما تنفقه «إسرائيل» على البحث العلمى فى هذا المعهد وغيره فيبلغ نحو 5% من النتائج القومى الإجمالى وتنفق من ناتجها المحلى الإجمالى لأغراض البحث نسبة مئوية تعادل (17) ضعفاً للعالم العربى حيث تخصص إسرائيل (37%) من ميزانيتها للمشاريع العلمية.
كل هذا ليس مهما.. لكن النضال اللغوى هو القيمة والهدف والفيصل فى معركة التحرير والبقاء وطرد الجرذان المذعورة من بقاع أوطاننا العربية الغالية..
أما «على سالم» وأمثاله فهم خونة ومأجورون وعملاء.. لذلك فإن القضاء عليهم واجب وطني.. وضرورة قومية وهدف نبيل.. ومقصد شريف.. وحتمية مقدسة..
لقد قتلوه.. مثلما قتلوا «صلاح عبد الصبور» و«صلاح جاهين» و«جمال حمدان» و«سعاد حسنى» و«نصر أبوزيد» و«حلمى سالم» و«نجيب سرور».. وهذا زمن الحق الضائع / لا يعرف مقتول من قاتله ومتى قتله / ورءوس الناس على جثث الحيوانات / ورءوس الحيوانات على جثث الناس / فتحسس رأسك / تحسس رأسك.