الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

عبدالرحمن الخميسى.. عبقرية نضجت على نار المعاناة والحرمان

عبدالرحمن الخميسى.. عبقرية نضجت على نار المعاناة والحرمان
عبدالرحمن الخميسى.. عبقرية نضجت على نار المعاناة والحرمان




إعداد - رانيا هلال

«قصة الخميسى هى قصة العاصفة التى هبت من الريف المصرى أيام القصر والاحتلال.. وعبقرية الخميسى هى عبقرية الفلاح المصرى التى نضجت على نار الحرمان والمعاناة، جاء الخميسى من قريته إلى القاهرة ليضرم النار فى الأدب الرسمى ومعلقات المديح فى الحكام وليعلن على الملأ أن حسن ونعيمة أهم من روميو وجوليت وكان الأدب الشعبى وقتها محتقرا، وكانت الكتابة حكرا على أصحاب الأقلام الذهبية من أبناء الباشوات وحملة الدكتوراة، لكن الخميسى القادم من القرية دون أن يكمل تعليمه كسر هذه القاعدة، ومن لا شىء أصبح شيئا عظيما، ومن الفقر واليتم والتشرد والضياع اعتلى عرش الأدب وترك لنا بعد رحيله الصوت الرخيم وأخذ الحنجرة الذهبية، ترك الأوراق واحتفظ بالقلم اللاهب المداد الذى كان يشيع الدفء فى الأكواخ ويضرم النار فى القصور « هذا ما أورده الكاتب احمد هاشم الشريف فى شهادته عن الكاتب والمبدع الراحل عبدالرحمن الخميسى.
فقد ولد «الخميسى» فى 13 نوفمبر 1920 بمدينة بورسعيد. درس فى مدرسة القبة الثانوية بالمنصورة لكنه لم يكمل دراسته بها.. فى سن مبكرة بدأ الخميسى يكتب الشعر ويرسل قصائده من المنصورة فتنشرها كبرى المجلات الأدبية حينذاك مثل «الرسالة» للأستاذ أحمد حسن الزيات، و«الثقافة» للأستاذ أحمد أمين، ثم استقر قراره على الانتقال للقاهرة عام 1936، وهناك أجبرته الظروف على العمل بائعا فى محل بقالة وكومسارى ومصححا فى مطبعة ومعلما فى مدرسة أهلية والنوم على أرائك الحدائق، كما جاب الريف مع فرقة «أحمد المسيري» المسرحية الشعبية التى كان صاحبها يرتجل النصوص. وفى فترة لاحقة دخل إلى عالم الصحافة بانضمامه إلى جريدة المصرى لسان حال الوفد قبل ثورة 1952.
وقد قال عنه ابنه الكاتب المتميز أحمد الخميسى «هذه هى بالدقة الخطوط الرئيسية لحياة والدى الذى شد رحاله من قريته بالمنصورة إلى القاهرة عام 1936، فقد كان شابا ريفيا معدما بدون مؤهل علمي، ولا مال، ولا سند، ولا معارف، وليس بحقيبته عند هبوطه بمحطة قطار مصر سوى قصائده فى مواجهة عاصمة ضخمة لا يعرف فيها أحدا أو شيئا.
ويصف عبدالرحمن الخميسى فى مذكرات لم يتمها لحظة انتقاله للقاهرة قائلا: «أنا فى القاهرة بلا أهل ولا دار.. ولا أملك شيئا غير إرادة الحياة.. ليس فى جيبى مليم ولكن قلبى غنى بالأحلام. لم تكن لى أسرة ذات جاه، بل لم يكن لى قريب يستطيع أن يعاوننى، وقد أنفقت ليلتى نائما على أريكة فى حديقة عامة. وحين أيقظنى الصباح، توجهت إلى دار الكتب، وتناولت إفطارى وأنا سائر على قدمى، وكان ذلك الإفطار بعض حبات من الحمص بقيت فى جيبى من الأمس. وكانت بعض المجلات الأدبية كالرسالة والثقافة تنشر لى قصائد مطولة من الشعر أرسلها إليها من بعيد، كان أصحاب تلك المجلات والمشرفون عليها، لم يشاهدوا وجهى حتى ذلك الحين. وصلت إلى دار الكتب بميدان باب الخلق، وكان الأستاذ أحمد رامى يعمل فى الدار رئيسا لقسم الفهارس الأفرنجية.. وقد تصادف أن تعرفت به فى بوفيه الدار، ولم يكن لى عمل رسمى ولا أهل، أستطيع بواسطته أن أستخرج من الدار ترخيصا باستعارة الكتب، فكنت أتردد عليها كل يوم للمطالعة، حتى توثقت العلاقة بينى وبين الأستاذ أحمد رامى فساعدنى على استعارة الكتب.. والتقيت بمجموعة من الشباب فى مقهى من مقاهى باب الخلق، واحترفنا كتابة الأغانى للغير عدة سنين حتى نستطيع أن نحصل على القوت الضرورى ليتوافر بعد ذلك أن نطالع وأن نثقف عقولنا.. فى عام 1938، قدمنى إلى المستمعين من محطة الإذاعة الأستاذ محمد فتحى، فأخذت أذيع قصائد شعرى، وأقوم بتأليف التمثيليات وإخراجها وكان عمرى فى ذلك الحين لا يتجاوز الثامنة عشرة.. ثم التقيت بأستاذى المرحوم خليل مطران الذى منحنى من تعاليمه ورعايته ما هيأ لى الفرصة، ثم استفدت بمصاحبتى لسلامة موسى وإبراهيم ناجي، وكانوا يبذلون لى من التشجيع ما يشد عزمي.. فى وقت لم تكن تساندنى فيه عائلة قادرة، ولا يؤزرنى رزق موصول، ولا يحمينى سقف ممدود «. يشعر الخميسى بوحشته ووحدته بلا حماية أو دعم فى مواجهة المدينة، فينبرى للعالم الجديد بقصيدة أقرب إلى صرخة التمرد وقبول التحدى هى «ثورة» عام 1939.
لمع الخميسى شاعرا من شعراء الرومانسية ومدرسة أبوللو بروادها الكبار: على محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجي، وغيرهم وفى سنوات ما قبل ثورة 52 أخذت تظهر مجموعات الخميسى القصصية التى صورت طموح المجتمع المصرى وخاصة الطبقات الفقيرة إلى عالم جديد وعندما قامت ثورة يوليو، وأغلقت صحيفة المصري، اعتقل الخميسى وظل رهن الحبس من يونيو 1953 حتى منتصف ديسمبر 1956 نظرا لموقفه الداعى للتشبث بالحياة الحزبية الديمقراطية بعد الإفراج عنه التحق بجريدة «الجمهورية» لكن الحكومة قامت فيما بعد بنقله فيما يشبه العزل السياسى مع مجموعة من أبرز الكتاب إلى وزارات مختلفة وكان نصيبه منها وزارة التموين، فألف فى تلك الفترة فرقة مسرحية باسمه كتب وأخرج أعمالها ومثل فيها وجاب بها المحافظات، كما كتب للإذاعة عدة مسلسلات لاقت نجاحا خاصا أشهرها «حسن ونعيمة» التى تحولت لفيلم واعتبرها النقاد «قصة روميو وجولييت» المصرية.
وفى لفتة لطيفة يقول عنه الكاتب أحمد بهاء الدين : «دهشت عندما قرأت فى نعيه أنه توفى عن سبعة وستين عاما فقط وكنت أظنه أكبر من ذلك لكثرة ما أنتج وكثرة ما عاش، وكثرة ما سجن، وكثرة ما سافر فى أنحاء الدنيا، وكثرة ما ترك من الأبناء والبنات فى شتى عواصم العالم».
ترك الخميسى سبعة دواوين شعرية هي: الدواوين: أشواق إنسان (مايو 1958) القاهرة - ثم «دموع ونيران» 1962 القاهرة، ثم ديوان الخميسى دار الكاتب العربى 1967 ثم ديوان الحب 1969 القاهرة - إنى أرفض؟ بيروت - تاج الملكة تيتى شيرى 1979 بيروت - مصر الحب والثورة 1980 بيروت. وقد اعتبره الدكتور لويس عوض: «آخر الرومانسيين الكبار» وأشار إلى قصيدته «فى الليل» معتبرا أنها «من أروع ما نظم شعراء العربية». واعتبر د. محمد مندور أن الخميسى «بلغ بشعره حد السحر».
ثم توالت مجموعاته القصصية بعد أن أعاد صياغة «ألف ليلة وليلة الجديدة» على صفحات المصرى وصدرت فى جزئين، ثم ظهرت مجموعته الأولى «من الأعماق» ثم «صيحات الشعب» فى نوفمبر 1952، ثم «قمصان الدم» مارس 53، و«لن نموت» مايو 1953 ثم «رياح النيران» مكتبة المعارف بيروت أبريل 1954 و«ألف ليلة الجديدة» و«دماء لا تجف» فى نوفمبر 1956، «البهلوان المدهش» أكتوبر 1961 (الكتاب الذهبى روز اليوسف)، وأخيرا «أمينة وقصص أخرى» (الكتاب الماسي) عام 1962 وكانت تلك آخر مجموعة قصصية له، فلم يعد إلى فن القصة وله أيضا قصة طويلة لم تطبع نشرت فى المصرى أواخر الأربعينيات تحت عنوان «الساق اليمنى».
وقدم الخميسى أربعة أفلام شارك فى وضع قصصها وسيناريوهاتها وألف الموسيقى التصويرية لبعضها ومثل فى بعضها الآخر وهى: الجزاء 1965 بطولة شمس البارودى وحسين الشربينى - عائلات محترمة عام 1968 حسن يوسف وناهد شريف - الحب والثمن أكتوبر 1970 أحمد مظهر زيزى البدراوى - زهرة البنفسج 1972 زبيدة ثروت عادل إمام. كما قدم للسينما اكتشافه الرائع سعاد حسنى فى فيلم حسن ونعيمة الذى كتب له السيناريو، كما قام بأداء دور الشيخ يوسف فى فيلم «الأرض» ليوسف شاهين.
فى النهاية فقد ترجمت أعمال الخميسى إلى لغات عديدة منها الإنجليزية والروسية والفرنسية وغيرها وكانت موضوعا لرسائل الدكتوراة فى جامعات أوروبية عدة.