الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«النبى دانيال» من خطف البنات ومقبرة الإسكندر.. إلى هدم الأكشاك




«كانت تسير مع خطيبها فى وسط الشارع وفجأة انشق الشارع إلى نصفين وابتلع الفتاة شديدة الجمال وترك خطيبها وما هى إلا لحظات حتى عاد الشارع مرة أخرى إلى حاله القديم. ولم يتمكن أحد من العثور على الفتاة مرة أخرى».
 
تلك هى الحكاية التى يراها البعض مجرد شائعة منحها أهالى الإسكندرية مصداقيتهم لتتحول إلى أشهر ما يروى عن شارع النبى دانيال الذى يعد من أطول شوارع المدينة اليونانية الطراز.
 
ويعود تاريخ الحكاية أو الشائعة إلى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى ولكنها لاتزال تتردد كإحدى غرائب الشارع ومبعث الغموض فيه.
 
هل هذا يكفى لشد الانتباه إلى الشارع الأهم فى الإسكندرية؟.. بالتأكيد لا ففى عام 1958 حاول الجرسون اليونانى (ستيلو) والذى كان يعيش بالإسكندرية أن يقوم بالحفر فى منطقة محطة الرمل للبحث عن قبر الإسكندر.
 
ومازال الاعتقاد السائد أن المقبرة موجودة فى شارع (النبى دانيال) وكان هذا الاعتقاد معتمدًا على خريطة رومانية قديمة تقول أن قبر الإسكندر أسفل مسجد النبى دانيال.
 
فما حكاية هذا الشارع الذى شغل مصر كلها من جديد فى هجمة على أكشاك الكتب القديمة نفذتها قوات الأمن مؤخرًا ولاقت استياء واسعًا فى أوساط المثقفين؟.. يشق شارع النبى دانيال وسط مدينة عروس البحر من ميدان محطة مصر إلى ميدان محطة الرمل، ويعود تاريخه كما يقول علماء الآثار إلى تاريخ نشأة المدينة عندما عهد الإسكندر الأكبر إلى مهندسه اليونانى «دينو قراطيس» بتخطيط هذه المدينة حيث وضع لها تخطيطًا أشبه بقطعة الشطرنج وهو عبارة عن شارعين رئيسيين متقاطعين بزاوية قائمة تحيط بهما شوارع أخرى فرعية تتوازى مع كل من الشارعين. وكان شارع النبى دانيال يحده من الشمال بوابة القمر ومن الجنوب بوابة الشمس.
 
ويقول الدكتور عزت قادوس أستاذ الآثار اليونانية الرومانية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية: كان شارع النبى دانيال هو الطريق الرئيسى بالإسكندرية القديمة وكان يطلق عليه اسم «الكاردو دى كومانوس» وكان يضم العديد من المعابد الرومانية ومن بعدها المعابد اليهودية واستمرت أهميته حتى العصور الإسلامية ثم تغير اسمه بعد بناء مسجد النبى دانيال الذى كان فى الأصل معبدا يهوديا سمى على اسم النبى دانيال أحد المبشرين باليهودية.
 
وقد أدى وجود العديد من الآثار الرومانية تحت المسجد إلى الاعتقاد بأن مقبرة الإسكندر الأكبر موجودة أسفله ودعم هذه الفكرة وجود الجبانة الملكية فى تقاطع شارع النبى دانيال مع شارع فؤاد إلا أنه بعد البحث والتنقيب لم يكتشف أى شىء يخص الإسكندر ولكن تم اكتشاف أنفاق كبيرة من العصر الرومانى متصلة ببعضها وكانت مصممة لهروب الملك عند قيام الثورات التى كان يقوم بها أهل الإسكندرية القديمة بحيث يهرب إلى خارج البلاد وكان منها ما يؤدى إلى البحر المتوسط مباشرة.
 
وقد وصف المؤرخ الإسلامى المقريزى هذه الأنفاق بأنها من الاتساع والارتفاع أن يسير فيها الفارس ممتطيا جواده رافعا سيفه وهو ما يقدر بثلاثة أمتار.
 
ويعتبر شارع النبى دانيال من أشهر المحطات الثقافية فى الإسكندرية ليس بسبب كثرة عدد المكتبات فيه فقط، ولكن أيضًا بسبب باعة الكتب الذين يصطفون على جوانب الشارع فى أكشاك خصصتها لهم المحافظة - لاحظوا أن المحافظة هى التى خصصت لهم الأكشاك - بعد أن كانوا يتناثرون على الأرصفة يبيعون كل أنواع الكتب العربية والأجنبية وفى مختلف التخصصات إلى جانب المجلات والمجلدات القديمة والحديثة. ساعدهم على ذلك وجود العديد من الجنسيات فى المدينة ولهذا فقد ذاعت شهرة الشارع فى مجال بيع الكتب فى كل أنحاء العالم وعرف بـ«شارع الكتب».
 
فهل يستمر الاسم نفسه بعد الهجمة الشرسة على الكتب والمكتبات؟ سؤال محير والإجابة تحير أكثر.
 
يقول «عم عبدالعال حسين» أكبر باعة الكتب سنا: زبائننا من كل لون، حيث يأتى إلينا السائحون فيجدون ضالتهم بأسعار زهيدة جدًا، إلى جانب عدد من العلماء والمثقفين وكان أشهرهم الأديب الراحل نجيب محفوظ الذى كان يأتى إلينا فى كل مرة يزور فيها الإسكندرية فى فصل الصيف.
 
ويرى عم عبدالعال أن كل ما يتردد من أن الشارع يبتلع الفتيات الجميلات مجرد خرافات صدقها الناس بعد أن رددوها وكل ما يحدث هو انهيارات متكررة فى الشارع وهى ظاهرة تتكرر فى العديد من شوارع الإسكندرية.
 
ويضيف: لكن بالتأكيد ما نراه اليوم من هجوم على الكتب والثقافة هى حقيقة لا جدال فيها ولا نعرف لماذا الآن هذا الهجوم الضارى على الثقافة والعلم؟
 
وتابع «لقد عايشت قصة اختفاء العروس التى كانت تسير بجوار خطيبها ثم اختفت فجأة وفشلت كل محاولات البحث عنها بواسطة الضفادع البشرية. والسبب أن الشارع حدث به انهيار فسقطت الفتاة فى أعماقه وبسبب وجود أنفاق الصرف الصحى جرفها التيار إلى البحر ولم نجد لها أى أثر، لكنها كانت الحادثة الوحيدة من نوعها.. أما ما عدا ذلك من حوادث.. هى مجرد شائعات... لن ترقى أبدًا لما يحدث لنا الآن.. الآن نعيش الأسطورة مجسدة.. نعيش الدهشة والاستغراب على حق.. كتبنا مصدر الرزق الوحيد.. ومصدر تنوير العقول تم تقطيعها وإلقاؤها على الأرض أمام أعيننا ولم نستطع أن نفعل شيئًا.
 
واستدرك الغارة البربرية التى جرت وقائعها بالإسكندرية مؤخرًا تكشف عن غباء منقطع النظير، وحماقة تتحلى بهما السلطات المحلية بالإسكندرية، وجهل أصيل ومتأصل لدى المسئولين عن هذه المجزرة المعرفية والثقافية، وعدم وعى بالمكان الذين يتولون مسئوليته وقيمته ومكانته وتاريخه.. النبى دانيال بمثابة «سور الأزبكية» الإسكندرانى.
 
هو سوق شعبى صغير للكتب، فيه الكتب الجامعية التى لطالما ساعدت على مر السنين الكثيرين من الطلاب أبناء محدودى الدخل بجامعة الإسكندرية، بل وتلاميذ المدارس بالكتب الدراسية الخارجية، مقابل مبالغ زهيدة لا تقارن، بأثمان الكتب الجديدة، وأيما كانت هواياتك القرائية، وغاياتك المعرفية، عربية كانت أو أجنبية، فأنك سوف تجد فى هذا الجزء من شارع النبى دانيال مُبتغاك من الكتب العربية والأجنبية، سواء كانت كتبًا تراثية، أو أدبية أو دواوين شعر أو روايات وقصصًا، بكافة تنوعاتها، أو مراجع علمية فى كافة فروع العلم، فضلا عن مؤلفات يندر وجودها من الأربعينيات والخمسينيات، بل ومجلات ومطبوعات نادرة.
 
إن هؤلاء الباعة للكتب يمثلون الجانب المضىء والجميل من معدن هذا الشعب، فيهم النقاء والطيبة والحفاظ على المبادئ، أنهم أكثر ثورية من النخب الفاسدة والفاشية التى أفرزتها ثورة 25 يناير، فهم يناضلون طوال سنوات عمرهم فى سبيل التنوير والتثقيف بتوفير بضاعتهم الثمينة لمحدودى الدخل، إن هؤلاء الباعة يجسدون قيم التحضر والسماحة والوعى، وأياً كانت درجة التعلم للواحد منهم، فكم من مثقف، لا يملك مؤهلاً عالياً، لكنه يعلو بقيمه وثقافته على كثير من المتعلمين وحملة الشهادات العليا.
 
ويقول عم إبراهيم على.. أحد كبار سكان الشارع... النبى دانيال فى الإسكندرية ليس مجرد شارع تعلو فيه المبانى الشاهقة، فبمجرد الدخول إليه تبدأ تنفس رائحة عهود الرومان والإغريق والعباسيين والفاطميين، وإذا أردت أن تشم رائحة استعمار الإنجليز والفرنسيين وترى بعينيك يهود مصر الذين عاشوا مع مسلميها ومسيحييها فى أمان يدافعون عن استقلال مصر حتى تتنسم أنفاسهم حريتها فعليك بالسير فى هذا الشارع تاريخ الشارع يرجع إلى مئات السنوات، وهو نموذج للوحدة الوطنية، حيث يحتوى على المسجد والكنيسة المرقسية، وبه أيضاً أقدم معبد يهودى، ويعبر الشارع عن مدى ترابط كل المصريين ووقوفهم ضد كل الأعداء.
 
ومنذ عشرات السنين بدأ الشارع يأخذ مهنته من طابعه التاريخى، فقام عدد من هواة قراءة الكتب ببيع الكتب التراثية والتاريخية على الأرصفة، وبدأ الكل يتهافت عليهم من جميع المحافظات، ثم توسع الأمر إلى الدول الأخرى، وبدأ الشارع يتحول إلى مزار سياحى ثقافى يتوافد إليه الكثير من العرب والأجانب فى محاولة البحث عن تاريخ مصر فى شوارعها والكتب التى تحكى عنها حتى تحول هؤلاء الهواة إلى محترفين للمهنة بعد عشقهم الكتب ورغبتهم فى توسيع ثقافة المجتمع حولهم، واختلطت وجوههم بروح الشارع، أصبحوا يملون على زبائنهم ما هو أفضل لهم، تخرج على أيديهم العلماء والأطباء والكتاب والباحثين وغيرهم.
 
عم إبراهيم سويلم أقدم بائع كتب للتراث فى الشارع، لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه يحتفظ بكتب الجاحظ وابن خلدون وابن سلام، يعرف من هو صاحب فتح البارى، يعرف قيمة المخطوط القديم، يستطيع أن يدلك إلى ما تريده بمجرد أن تخبره عن هويتك الفكرية.
 
قال عم إبراهيم: «الكتب مش ورق وحبر، ده تاريخ وثقافة وعلم، فكيف لهم أن يهدموا تاريخهم ويدوسوه بأقدامهم، لم أعرف القراءة والكتابة ولكن العلم الذى اكتسبته من معاشرتى الكتب جعلنى أحبب أبنائى فيها، حتى أصبح ابنى الكبير يملك مكتبة فى منزلة يزايد عليها القاصى والدانى، وهو لا يرغب فى التفريط فى جزء منها».
 
وأكد عم إبراهيم أن المكسب من بيع الكتب ليس بالكثير، ولكنه يكفيهم لعيشهم، مؤكداً أن هذه المهنة قامت بفتح بيوت كثيرة، مشيراً إلى الشباب الذين تخرجوا بمؤهلات عليا دون أن يجدوا وظيفة تمنحهم العيش الكريم، هذه المهنة التى هى أفضل من وظيفة أمن أو وظيفة مندوب مبيعات.
 
ووصف حسين محمد، من الباعة القدامى بالشارع، ما حدث من إزالة أكشاك بيع الكتب بأنه جهل من ناس يهدمون العلم، مشيراً إلى أن العهد الفاسد لم يجرؤ يوماً على دهس كتاب، وأضاف إنه فى الشارع منذ 56 عاما وساعد الملايين من الشباب فى أن يصبحوا علماء وأطباء وأساتذة، وإنه عشق مهنته بعد أن أدرك قيمتها التى لا تقدر بالملايين، فهى كنز المعرفة التى لو أدرك المسئولون قيمتها فى تطوير البلاد لاتخذوها منهجاً يسيرون عليه، موجهاً إلى الحكومة رسالة قائلاً: «تعالوا زوروا الشارع وخذوا كتباً واقرأوها وهى ستوصيكم بالحفاظ علينا».
 
أما ناصر محمد فهو من أحد أصحاب الأكشاك التى تم هدمها، ولكنه أصر على أن يبيع كتبه فقام بعرضها على الرصيف، وهى ممزقة، تأكيداً منه على رفض التدهور الثقافى وحضارات الأمم الموجودة فى هذه الكتب.