الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع: معركة الجمل

واحة الإبداع: معركة الجمل
واحة الإبداع: معركة الجمل





يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 055 كلمة» على الإيميل التالى:    


[email protected]
اللوحات بريشة الفنان إبراهيم عبدالملاك

 

كتبها: محمد  شلبي أمين

لم يخرج من عباءة أحد، نبت كالسواد الأعظم من أبناء طينة هذه الأرض السوداء، رغم سنه لم يزل يحتفظ بهيبته، والبقية الباقية من عصر ريادته.
فى لحظة دفء عائلى، وصفاء عزيز.. بادرتهم بأنى سأرشح نفسى أمامه لأصبح مدبرا لشئون العائلة مستغلا هذا الدفء وهذا الصفاء، مستثمرا تأكيده اللامتناهى على ديمقراطية القائد، ربما ميله الزائد عن الطبيعى إلى رأيى فى القرارات الحاسمة هو الدافع لذلك، رغم أننى لست الكبير الذى رضع الحنان منفردا، ولا الصغير الذى يدلل كآخر حبة فى عنقود العائلة التى صنعت على عينه وتكونت من صراعه الأبدى من الأرض وساكنيها.
جحظت العيون واصفرت الوجوه، أمسيت مرتعا للشفقة ومأوى للزجر بكل ألوانه، وأصبح الهجوم علىّ هو السلوك الطبيعى تجاه غرورى تمنيت لو أن هذه اللحظة لم تتجاوز حدود جسدى ولم يحسها غيرى أو أنى أستطيع إعادة الكلمات إلى حلقى، لكن مادامت واقعا فعلى أن أصمد حتى النهاية، قالها لى ذات مرة: الكلمة قذيفة إذا أطلقتها لا يمكن إعادتها، حدد أهدافك دائما قبل إطلاق قذائفك.
همست رقم عشرة فى ترتيب القدوم إلى الدنيا فى أذنى بصوت يسمعه جميعهم محاولة التخفيف عنى مستغلة حبه وحبى وحبهم لها: لو رشحت نفسك أمام أى واحد فينا لفزت عن جدارة أما أمامه فلا أظنك ستحصل حتى على صوتك.. زال الشحوب قليلا عن الوجوه المنتظرة هدأ قلبى من روعته، بدأت أنفاسى المتسارعة تنتظم، ظهرت الابتسامات الباهتة متلهفة لرده حتى تصفو أو تموت.
نظر إلىّ فى لحظة قاهرة، نظرة أسرة، نطق مزلزلا اللقاء بانتفاضة: وأنا سأعطيك صوتى.. استعد للمنافسة غدا ستشهد القرية المعركة الفاصلة بينى وبينك، انصرف عنا ليتركنا فى معارك جدلية انتهت بسؤال واحد.. كيف سيقنصك كما كان يفعل فى كل معاركه التى لم يهزم فى إحداها قط؟ فى كل معركة كان يقنص خصمه بطريقة جديدة، تدرس حتى الآن لم يكرر نفسه أبدا.
سمعنا من يعلن فى الناس عن موعد المعركة بينى وبينه.. ساعتها أيقنا جميعا أنه أراد أن يربينى على رءوس الأشهاد، ويربى من تسول له نفسه أن يقترب من كبريائه، ليته ربانى بينهم ولم يفضحنى على رأس الخلائق، قطعا هو الفائز بالعقل والمنطق والتكوين النفسى والجسمانى هو الفارس النبيل الذى لم يقهره قاهر على الأرض، تشهد على ذلك معركة الجمل الذى قضى على صاحبه الجديد وانطلق مهرولا فى شوارع القرية محطما كل ما يعترضه بحثا عنه، ساعتها استغاثه الناس.
ظهر فى الميدان تحلق الخلق فى عجب لما دار بينهما، إذ عنفه وزجره الجمل ثائر لا يهدأ، أمسكه من رقبته واضعا وجهه قبالة وجهه هامسا حتى تمتلئ عيناه بصورته وتتشبع أذناه بصوته، لم يهدأ، لوى عنقه، أجلسه، جلس أمامه ناظرا فى عينيه مخاطبا.. هل هناك ما يستحق ذلك؟ غافله، قفز على صدره، أجهد نفسه محاولا الإفلات منه، لم يستطع، صاح انتصارا فاتحا فاه، أدخل يده فى فمه قبض على حنجرته، انسل مسرعا، قافزا فى الهواء بخفته المعهودة ممسكا بلجامه، ربطه فى شجرة، ظل بعيدا عنه حتى سكت عنه الغضب، ظهرت الحيرة والأسف على وجهه، أعلن الناس انتصاره تصفيقا وإعجابا، جلس أمامه نظر فى عينيه كعادته إذا تحاورا، فى حدة لماذا وضعتنا فى هذا المأزق؟
كلهم راهنوا على فوز أحدنا، راهنت على محبتنا، ضربت بها عرض الحائط، نسيت رفقتنا لم يشغلنى الفوز بقدر خوفى من أن يمسك أحدهم بسوء، أعلم أنك ترفض بيعك، أنا مثلك، فعلتها على عينى، لكنى لن أتركك تموت أمام عينى جوعا ومرضا، مر الوقت سريعا، أفقت على عصاه السريعة الغليظة تلهبنى، قوى رغم سنه، سريع الحركة رغم شيخوخته، يضرب بعنف، آه لماذا وضعتنى فى هذا الموضع، يا رجل لا طاقة لى بمواجهتك، أنت تعلم وأنا أعلم وهم يعلمون أنك تؤدبنى ليس أكثر فارفق بى.
تعامدت الشمس، الأسد الوثاب.. الواثق من كل خطوة وكل لفتة، درس لن ينسوه جميعا، ولن أنساه أنا وكل ذريتى من بعدى، صديقى الأوحد - عصاه - لا تترك لى اختيارا، هروبى الدائم منها لا يرونه انهزاما بل عبقرية وفروسية، من يستطيع أن يتفادى عصاه التى تبرق وترعد وتهطل؟!
هروبى الدائم وملاحقته حركا عصاى لتمنع عصاه من الوصول لجسدى، محاولة لتخفيف الألم ليتنى استطيع الفرار، أعيش بعار الهزيمة المقرون بذل الهروب من المعركة، لن أخجل أن أفعلها.. فقط تأتينى الفرصة، حتى هذا لن يتركه لى، العصا تهوى على رأسى، أرفع عصاى لأمنعها، تأخذنى الهمة فى تفادى الضربات، برد فعل لا إرادى ترتفع عصاى لتهوى على رأسه فى المرة الوحيدة التى استطاعت أن تصل عصا إلى هذه المنطقة من جسده على مر عمره، لم يترنح ولم يحاول، سقط سقوط السماء على الأرض فى مشهد زلزل كل الكيانات الشاهدة، زلزلنى قبلهم، صمت مغمض العينين حاد الملامح، لم يستطع أحدهم أن يهنئنى بالنصر الذى نشده جلهم، شلت يدى التى امتدت نحوه.
أراد أن يتركنى بينهم فى صورة المنتصر، حتى ولو كان نصرا صوريا تخلى فيه عن بطولته، ليحفر المعركة بينى وبينه فى القلوب وعلى جدار الزمن وأحجار المنازل وجذوع الأشجار، لم أستطع حمله، أتى صديقه، برك إلى جواره فى حنان يفوق حنان البشر أخذ يتشممه، استفاق قليلا، زحف على ركبتيه، بصعوبة اعتلى ظهره، سارا فى عزة إلى أن غابا عنا.