الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

رحلة إلى مهنة «الموت»

رحلة إلى مهنة «الموت»
رحلة إلى مهنة «الموت»




تحقيق - محمود ضاحى


مهنة من أخطر المهن وأصعبها.. مشقة يومية كبيرة يواجهها العاملون من أجل توفير لقمة العيش.. فالعمل فى المحاجر يعرض حياة مزاولية للخطر فى كل لحظة.. فإن نجا من انفجارات الديناميت لن ينجو من سكينة تقطيع الكتل الخرسانية التى تبتر الأطراف أو الأسلاك الكهربائية العارية أو من تقلبات الجو أو الغبار الذى يسبب الحساسية الشديدة.
«روزاليوسف» لبست ثوب الواقع.. وارتدت زى عمال المحاجر.. عايشنا العمل معهم يوما كاملا فى أحد المحاجر بمحافظة المنيا.. ذقنا فيه كل أنواع التعب، حملنا الحجارة، عملنا على سكينة التقطيع الخطرة، تعرضنا للغبار والحساسية.. أفلتنا من الموت 3 مرات خلال 24 ساعة، بسبب الكابلات الكهربائية العارية، وسكين قطع الأحجار، والغبار الجيرى الذى أطبق على النفس.. القدر يلازم الجميع هناك.. أطفال يضحون بأنفسهم من أجل حياة أسرهم.. يعملون فيها بأجور متدنية لتوفير متطلبات ذويهم.. ننقل الواقع المؤلم بالكلمة والصورة وبكل حيادية فى هذا التحقيق.. من منطلق هل أتاك حديث مهنة الكادحين؟
قادتنا المعايشة لاكتشاف آدميين يتشابهون مع البشر فى اللون والجسم لكنهم أكثر تحملًا فى بيئة كلها كوارث، حيث الجبال والصحراء، كل ذلك من أجل لقمة العيش، وكان العملُ مليئًا بالصعاب التى لم نتوقعها.
اللحظات الأولى
بدأت خطواتنا الأولى بالعبور على مركب «معديّة نيلية» ضخم يحمل 5 سيارات بداخل كل منها ما يقارب الـ10 أشخاص تنقلهم إلى الجبل، وتنطلق الناقلة لتعبر إلى الضفة الشرقية من النيل، رددنا الشهادة خشية الغرق بعد أن استمعنا لروايات الركاب عن الحوادث المتكررة للغرق فى النيل فى هذا المكان، وكان آخرها حادث قبل شهور أودى بحياة 40 إنسانا.
وما أن وصل المركب إلى الشاطئ الآخر من النيل حتى انطلقت السيارة التى نقلها مع العمال قاطعة مسافة تقارب الـ 20 كيلو مترًا إلى منطقة المحاجر وسط الجبال الشاهقة، والثعالب التى تهرول على جانبى الطريق، ووصلنا لمكان العمل بعد السير بسرعة تقارب الـ 120 كيلو مترا فى الساعة فى طريق خال تماما من المارة والسيارات، حيث لم نر فيه سوى سيارات ملقاة على جوانب الطريق، نتيجة الحوادث المتكررة واصطدامها بالجبال لسرعتها الزائدة.
جير يملأ المكان
بمجرد دخول المحجر، بدأت عيوننا تحدق لرؤية ما يحدث على بعد 50 مترا فى باطن الجبل، لكنها عجزت عن الرؤية بسبب الغبار الشديد، وجير المحجر الخانق، قفز العمال من السيارة، فى طقس سيئ للغاية، بدّلوا ملابسهم بأخرى مخصصة للعمل ممزّقة يملؤها الجير والعرق.
وفى خيمة محاطة ببعض الأحجار، تعلوها أخشاب خفيفة للحماية من لهيب الحر وعواصف الجو تشبه المقبرة الصغيرة، بها «موقد» وبعض الأوانى المخصصة لطهى الطعام، وعلى ارتفاع متر فوق سطح الجبل بعيدًا عن الجير، خزًن العمال ملابسهم ثم هبطوا إلى باطن الجبل حيث مكان استخراج الأحجار وبدء العمل.
وأثناء السير نحو باطن الجبل كانت الخطوات البطيئة تغرس الأقدام فى الجير، فترفع بصعوبة لتتنقل بين الحجارة الملقاة فى الطريق بحرص شديد حتى لا تنزلق الأقدام بينهما وتصاب بجروح قطعية، وعلى بعد مسافة 50 مترًا «طولاً» و40 مترًا «عرضًا»، جو يملؤه الجير لا يُرى فيه ملامح لكائنات بشرية، وصلنا مكان العمل.
مخاطر وإصابات
بدأنا العمل فى جمع الحجارة الملقاة خلف سكين التقطيع، لكن وقعت الإصابة الأولى بضيق فى التنفس كادت أن تزهق الروح بعد سعال شديد بسبب انعدام الأكسجين فى المكان، تسارع من حولى لإنقاذى بعد أن وضعوا «شالاً أبيض» حول أنفي، وأخرجونى بعيدًا عن مكان العمل، وبعد تناول رشفة ماء عدت إلى عملى مرة أخرى، وبعد دقائق امتلأ وجهى بالجير، وانسدت فتحات أنفى وأذنى مرة أخرى.
بعد نصائح من رفقاء العمل الأقدم والأكثر خبرة، وتأكيدهم على ضرورة لفّ «الشال على الفم والرأس، وإظهار العين فقط للحماية من الأتربة والجير»، استمررنا فى جمع الحجارة الملقاة خلف سكين تقطيع الحجر برفقة 4 عمال، وسط أصوات مرتفعة وضجيج الآلات أسفل جبل شاهق تحيطه صحراء واسعة، واستمر العمل وجمع الحجارة من خلف سكين التقطيع ووضعه بطريقة متراصة فى جانب مخصص لها.
وعندما طلب «عم حسن» منى تفريغ جركن سولار فى مولد الكهرباء حتى تستمر المعدات فى العمل سارعنا لتنفيذ التكليف، ثم عدنا مرة أخرى إلى حمل الحجارة المقطعة، ورصها استعدادًا لحملها على سيارات النقل الثقيل المخصصة لذلك فور وصولها، حيث تعبر إلى الشاطئ الغربى للنيل بعد ذلك، ثم تنطلق إلى المكان المخصص لتسويقها فى منطقة «شوشة» بمحافظة المنيا.
راحة وشرب الشاى
جاء وقت الراحة فى العمل والذى لا يستغرق سوى ربع ساعة، سألت عن الماء، فكانت أداة الشرب التى يعتمد عليها العمال هى «جركن» كان فى الأساس يستخدم لتعبئة زيت لمولد الكهرباء، ورغم أن المياه بداخله ملوثة بالجير وبقايا الزيت إلا أنه غير مسموح بالشرب منه حتى الارتواء، لعدم كفاية المياه للعمال، وتخلل وقت الراحة شرب الشاى المعد فى «براد» أسود متفحم ذو فتحتين يملأهما الصدأ، ولا يوجد سوى 3 «فناجين» تنغمس فى «جردل» يمتلئ بماء مخلوط بالجير.
وأثناء شرب الشاى، بدأ عامل يدعى فتحى محمد حديثه معنا قائلًا «منذ أن وعيت على الدنيا منذ 25 سنة وأنا أتنقل للعمل فى المحاجر، والأجرة تكفى بالكاد، وعملى عبارة عن رص البلوكات «الطوب الحجرى المستخدم فى البناء» لكن المشكلة أن كثيرًا من المحاجر أغلقت مؤخرًا، وشردت أغلب العمال الذين لم يجدوا ملجأ لهم سوى السرقة والهرب فى الجبال حتى أصبحوا من المطاريد.
سكينة التقطيع والأسلاك الكهربائية
ويكمل: سبب غلقها هى الضرائب المفروضة مؤخرًا على المحاجر بسبب قانون الثروة المعدنية الجديد، ورفض أصحاب المحاجر دفعها، ومن ثم أوقفوا محاجرهم عن العمل، الأمر الذى رفع من سعر الحجر بشكل مبالغ فيه، لعدم توافره وقلة المحاجر العاملة والمنتجة، وأكد أن 90% من العمال مصابون بالربو والحساسية بسبب الجير، وأن المحجر الواحد يحتاج على الأقل 16 عاملاً به، ويشهد على إصابة 3 من زملائه ببتر «عُقل أصابعهم» مؤخرا بسبب شفرة ماكينة التقطيع، والسبب أنها تعود للخلف أثناء التقطيع  دون حذر من العامل الذى يسهو عنها، وتابع: «أكثر ما يقلقنا فى عملنا هى الأسلاك الكهربائية العارية الموصلة بالمولد الموضوعة فوق الأحجار المقطعة ولا بديل لذلك، وعلى كل عامل الحذر».
حصد الأرواح
أما محمد أبو رمضان - عامل من قرية «بنى خالد» مركز سمالوط - فحكى أن أغلب شباب قريته يعملون فى المحاجر، وأن الكثير منهم تشردوا بعد أن توقف عدد من المحاجر، لكن الكثير من العمالة تعمل فى سرية تامة تحت الجبل مع المحاجر غير المرخصة.
محمد أبو القط - من قرية  السرارية التابعة لمركز سمالوط  21 سنة دبلوم صناعة - يعمل فى المحجر منذ 13 عاما، ويقول «معنديش لقمة عيش بديل عن المحجر، ولا مصدر رزق سواها، وشغل المحجر موت، والغبار بيسد النفس ويتعب الرئة، ويوميتى 70 جنيهًا، كل يوم بشيل تراب وبلوك»، ويضيف: «أصيب الكثيرون بسبب الكهرباء فى المحجر، ولقى أكثر من 5 حالات حتفهم، وتوفوا بسبب إهمال أسلاك الكهرباء العارية، حيث يغفل عنها العمال، وأغلبها ملقاة على الأرض».
تابع: «دى مش عيشة، دى شغلة انتحار، أنا معايا دبلوم مش لاقى شغل ولا بديل، والمحاجر بتقفل وتعبت منها».
انتهينا من هدنة الشاى ثم عدنا مع العمال إلى ما يشبه «القتال» فى معركة البحث عن الرزق، صوت سكينة التقطيع صاحبة الضجيج الأكبر فى المكان، يبلغ وزنها 1طن تقريبًا وطولها 3 أمتار  وعرضها متر واحد، يقودها عامل ذو خبرة مهمته قطع الأحجار المغروسة فى الأرض، تتحرك بشفراتها الحادة والمدببة ببطء على الحجر فتشقه نصفين، يسير وراء «عامل السكينة» اثنان آخران يجمعان الحجارة، ويضعاها على جانبى آلة التقطيع والتى تسببت فى قطع أرجل 3 عمال منذ سنتين دون وعى منهم.
ونتيجة العمل يٌجبر العمال على التنقل بين الحجارة المقطعة التى تسدل عليها الكابلات العارية ذات سمك نحو 7 سنتيمترات تقريبًا رغم أنها سبق أصابت أكثر من 10 حالات بصعق كهربائى وتم نجدتهم على الفور، وليس أمامهم سوى أن يتعاملوا بحذر ويذكَروا بعضهم بها حتى لا يضيع العمر فى غفلة وسط جبل لا علاج فيه ولا مستشفى.
سرقة ومطاريد
أحمد سمير - صاحب محجر - قال إن المحاجر لا تعمل فى المنطقة بدون ترخيص، وكى يتم ترخيص أى محجر فلابد من دفع 70 ألف جنيه وفقًا لقانون الثروة المعدنية الجديد، لافتًا إلى أن مكسب المحجر لا يتعد 5 آلاف جنيه شهريًا، وأضاف: إحنا موجودين فى الجبل من زمان، لكن أيام حسنى مبارك أفضل بكثير من الفترات التالية لثورة يناير. وأوضح أن هناك ما يتراوح بين  2 و 3 آلاف محجر فى محافظة المنيا وتبدأ من قرية الشرفاء امتدادًا بطول المحافظة حتى قرية الشيخ فضل فى مركز بنى مزار على الصحراوى الشرقى، ولفت إلى أنه منذ صدور قانون الثروة المعدنية وتوقفت أغلب المحاجر عن العمل، وزادت عمليات السرقة والنهب حيث زادت أعداد المطاريد فى الجبل، مؤكدًا أن التفجيرات ممنوعة نهائيًا فى الجبل، وإلى مضاعفة البطالة بين عمال اليومية.

أطباء: «السرطان» أخطر مرض يتعرض له عمال المحاجر

نتيجة للخطورة الصحية التى تسببها المحاجر والعمل فيها على العمال كان لا بد من تسجيل رأى الطب، فقال الدكتور ياسر مصطفى - أستاذ الأمراض الصدرية بجامعة عين شمس -  إن عمال المحاجر يصابون بمرض السيليكوز وهو التليف فى الرئة، مشيرًا إلى أن بعض المحاجر ينبعث منها مواد مشعة قد تؤدى للإصابة بالسرطان.
وأوضح أن غبار السيليكا يتولد أثناء عمليات تكسير وطحن الصخور والرمال والخرسانة وبعض الخامات المعدنية داخل المناجم، مضيفًا إن الجير يؤدى إلى الإصابة بالحساسية والربو وأزمات حادة.
وأشار إلى أنه عندما يتطاير فتات الجير  تحت الأرض فى مكان لا توجد فيه تهوية مع ارتفاع نسبة الرطوبة يؤدى إلى نمو الفطريات ويسبب تليف بالرئة إضافة إلى إصابتهم بضعف البصر وضغط الدم.
وقال الدكتور إبراهيم حجازى - أستاذ الصحة العامة بجامعة القاهرة - إن المشاكل الصحية لعمال المحاجر تنحصر فى استنشاق ذرات الرمل الأمر، الذى ينتهى بالتهابات مزمنة فى الشعب الهوائية وانتفاخ الصدر، مشيرًا إلى أن خامة السيليكا تسبب أخطر الأمراض التى تنتهى بسرطان الرئة، وينتشر بين عمالها مرض «السل الرئوى»، وأن هناك عوامل خطيرة للأمراض بسبب كثافة الأتربة الجيرية التى تتسبب فى الإصابة بحساسية الصدر والتهاب شعبى حاد.
وأشار إلى أن حساسية الصدر مع الالتهاب الشعبى الحاد ينتهى بانتفاخ الصدر نتيجة حاجته للأكسجين، حيث إن انسداد الأنف يعيق دخول الهواء للجهاز التنفسى، كما أن الجيوب الأنفية تتأثر نتيجة الهواء الملوث ما يؤدى إلى عدم القدرة على العطس والسعال وأزمات الرئة، ويمنع مخاط الأنف كميات كبيرة من الأتربة  لكن مع انسداد الأنف والتنفس عبر الفم تدخل كميات كبيرة من الجير ولا يخضع للفلترة فيصاب الحلق بالتهابات، كما أن الحالة الغذائية لعمال المحاجر سيئة، إضافة إلى ضعف المناعة بسبب الفقر، ومع سوء التغذية والتدخين وقلة الغذاء تؤدى إلى إصابة العامل بالدرن.