الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«فى تونس «الباهية».. السينما فى مواجهة الإرهاب

«فى تونس «الباهية».. السينما فى مواجهة الإرهاب
«فى تونس «الباهية».. السينما فى مواجهة الإرهاب




رسالة تونس: نسرين الزيات

لم تكن تونس، بمنأى عما يحدث فى المنطقة خلال الخمسة أعوام الماضية، فرغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها، التى تكاد تشبه إلى حد كبير نقطة زيت عائمة على البحر، إلا أنها أشد تأثرًا وتأثيرًا فى بلدان الوطن العربى.

اثنا عشر يومًا قضيتها فى تونس «الباهية» ــ كما يسمونها أهاليها ــ كنت ضيفة على الدورة السادسة والعشرين من أيام قرطاج السينمائية والمقامة فى الفترة من 21 إلى 28 نوفمبر الماضى.
أعرف تونس جيدًا، زياراتى المتعددة لها منذ عام 2006، رائحتها العطرة، وشعبها الدمث بابتسامته الدائمة، والثقافة المصرية المتلاحمة فى ثقافتهم فى الغناء والموسيقى والسينما، وأيضًا السياسة.
ما أن تسير فى شارع الحبيب بورقيبة (وهو الشارع الرئيسى الذى يتوسط العاصمة التونسية) إلا وترتجف أذناك وقلبك على أغانى عبدالحليم حافظ وأم كلثوم وشادية وفايزة أحمد، موسيقاهم وأغانيهم المنبعثة من محلات شرائط الكاسيت، والمحلات التجارية، هذا المزيج الاستثنائى مندمج مع رائحة القهوة الأسبرسو أو الشاى الأخضر التونسى أو كما يسمونه «آتاى»، المقاهى المتراصة على جانبى بورقيبة، تشبه إلى حد كبير مقاهى الشانزليزيه فى باريس.
 فى مصر، دائمًا نكرر عبارة «الإجابة تونس»، هى دومًا ما تسبقنا، فى الحراك السياسى والاجتماعى إلى حد كبير، اشتعال الثورة بدأ منها فى 17 ديسمبر 2010،  احتجاجًا على انتحار الشاب بوعزيزى بعد إضرام النار فى جسده، ومن ثم بدأنا نحن (فى مصر) فى بداية يناير 2011 فى الإسكندرية، عقب مقتل خالد سعيد، من وقتها وأدركنا جميعًا أن تونس تسير بخطى ثابتة نحو التغيير فى المنطقة العربية، جميعًا.
أيام وتمر السنة الخامسة على بدء الثورة فى تونس، حتى وصلنا للذكرى الخامسة على الثورة المصرية فى 25 يناير، ليست معلومة جديدة، بل كلنا أصبحنا نعد السنوات على بدء الثورات وكأننا نعد حبات من الفول السودانى.
فى ظهيرة أحد الأيام، ذهبت إلى أحد المطاعم فى شارع مرسيليا المتفرع من الحبيب بورقيبة، وجدت الباب مغلقاً، لكن مدير المطعم أخبرنى أن وقت الغداء انتهى، وطلب منى الانتظار إلى السابعة مساءً، لم تمض دقيقة واحدة، وما أن عرف أنى مصرية، قال: سوف أعد لك طعامًا جيدًا، فقط من أجل مصر، فرحت جلس فى مقابلتى «عم فتحى» ذلك الرجل الأسمر التونسى، اقترب عمره من الستين، سألنى عن حال مصر، أخبرته باللهجة التونسية: كيفا تونس.. لم يدهش، وقال: نحن فى تونس ندمنا على قيام الثورة، والشعب أصبح أكثر تبجحًا، ولم يعد يحتفظ بالقيم الأخلاقية التى تربى عليها.
انزعجت قليلاً من حديث عم فتحى، لكن تأكدت فى اليوم الثانى، أن سلوك الشعب التونسى تغير بالفعل، مثلنا نحن فى مصر، السلوك متشابه إلى حد كبير، اليأس والفقر والحزن والشغف أيضًا، جمع بيننا نحن البلدين.
أتذكر أنه فى المرات الثلاث ــ الأولى ــ التى زرت فيها تونس قبل الثورة، كنت أشعر بالبهجة، والحرية والسعادة، نادرًا ما كنت أشاهد فتاة أو سيدة بالحجاب أو النقاب، لم أر فى مراتى السابقة، ولا رجلاً بلحية، ولم تخطأ أذناى وأسمع رجال دين يلوثون آذان المارة بأدعيتهم الزائفة، وقراءتهم الخاطئة للقرآن الكريم، لم أكن مضطرة للسير فى الشارع وأنا فى حذرى مثلما يحدث فى مصر، لم يكن يتجرأ شاب وأن يزعجنى بكلمة أو بنظرة، أبدًا.. للأسف هذا ما أثبته لى الرجل الستينى (مدير المطعم) الشعب تلوث بالفكر المزيف الذى دسه الدواعش فى ثقافتنا.
النقاش الذى دار بينى وبين عم فتحى، ظل ما يقرب من ساعة، تركته وأنا حاملة فى قلبى غصة وغضباً وحزناً يضاهى اليأس الجماعى الذى نعيشه جميعًا، بلا استثناء.
اليوم التالى، كنت فى طريقى إلى فندق أفريكا، فى شارع الحبيب بورقيبة، كنت أتأمل بسعادة وشغف الشباب المتزاحمين أمام قاعات السينما، حاملون المظلات، بألوان مبهجة، محتمون بها من المطر الغزير الذى زاد تونس بهاءً، تلقيت مكالمة من صيق تونس، أخبرنى بخطورة السير فى الشارع، وعلمت بوجود تفجير حافلة كانت تقل أفراد من الحرس الجمهورى التونسى بالقرب من شارع الحبيب بورقيبة، لم يمنع التفجير رواد السينما من الهلع والهرب عقب التفجير الذى أعلنت عن مسئوليته جماعة إرهابية، بعد ساعات زاد التوتر والقلق، ثم أعلن فرض حظر التجوال فى جميع أنحاء تونس من التاسعة، قضينا ليلة من الرعب والتوجس، محبوسين فى لوبى الفندق، تجمعنا نحن السينمائيين والإعلاميين، الوجوه كانت محايدة أحيانًا، وأخرى يملأها الخوف والقلق، والأسئلة التى كانت تطارد رئيس المهرجان، السينمائى والمخرج «إبراهيم لطيف» وقلقه على الضيوف والمهرجان فى يومه الثالث، لم يكن أمام «لطيف» إلا وأن يعلن للجميع المحبوسين داخل الفندق على استمرار فاعليات المهرجان وعروض الأفلام، رغمًا عن الإرهاب، مع إلغاء العروض السينمائية التى تقام فى التاسعة مساءً فى قاعات السنيما.
كانت السينما، هى الأداة الوحيدة والأقوى فى مواجهة الإرهاب فى تونس، لم يمتنع محبو السينما وروادها فى تونس من مواصلة شغفهم بالسينما والتزاحم الدائم واليومى على قاعات السينما، خرجوا بأصواتهم وأعلامهم ومظلاتهم للدفاع عن بلدهم تجاه داعش وما يمثلونها، رغم التهديدات التى لاحقت إدارة المهرجان تفجير قاعات السينما، وربما كان السبب الأساسى، هو جرأة رئيس أيام قرطاج السينمائية من إقامة العرض العربى الأول للفيلم المغربى «الزين اللى فيك» إخراج نبيل عيوش، والذى أثيرت حوله الكثير من الاتهامات والجرأة، والتهديدات التى لاحقته فى بلده والبلدان العربية الأخرى.
السينما هى الشىء الوحيد التى مازالت ستتحدى الإرهاب فى كل مكان وستظل كذلك مهما فعل هؤلاء المرتزقة.