الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

عينك بتوجعنى.. وعينى أيضا!

عينك بتوجعنى.. وعينى أيضا!
عينك بتوجعنى.. وعينى أيضا!




د. على الشامى  يكتب

كانت الروح التى تسود الستينيات – وما أدراك ما الستينيات – مميزة فريدة روح تدفع الشباب نحو التمرد والتفرد، حيث كان الحلم والأفكار الجديدة والروح الفتية التى تملأ نفوس المصريين والدماء الجديدة فى عروق الشباب بغض النظر عن تراجع الحريات أو أى سلبيات أخرى قد يراها البعض فى العهد الناصرى كانت الروح السائدة هى روح الإبداع الخلاقة كانت الأفكار تتغير والزمن كذلك شهدت القاهرة حادثة فريدة من نوعها إحدى البنات الجامعيات تخرج لسوق العمل ولكن ليس لسوق العمل الكلاسيكى أو لإحدى مؤسسات الدولة فى ذلك الوقت وإنما لتعمل «جارسون» أو جارسونة إن جاز التعبير ولأن الظاهرة جديدة وفريدة فقد جذبت عظماء العصر من الكتاب حتى العقاد نفسه ذهب وكتب عنها.
أما أكثر من تفاعل معها فكان الشاعر كامل الشناوى الذى أراد مداعبة الفتاة ومشاكستها فقال لها: عينك بتوجعنى. فلم تفهم الفتاة المعنى وقالت له: هى عينى أنا ولا عينك أنت؟ فأنشد الشاعر العملاق قصيدته الشهيرة «فى الكافيتريا» التى تقول: مرت بنا كالطيف تسألنا /عما نريد /فلذت بالصمت/ ودنت لتسألنى على حدة/ عما أريد / فقلتها: أنت / غضبت وألقت نظرة نزعت قلبى وشدته إلى فمها/ ياليته يبقى بقلبها / ياليته ينساب فى دمها إلى آخر القصيدة.
هذا الشاعر الجميل كان فى شبابه يلقى قصائد أحمد بك شوقى أمير الشعراء الأوحد والوحيد فى كرمة ابن هانئ ولكنه مع الوقت رفض، قال لأخيه مأمون الشناوى: ربما أنا لست فى عظمة أحمد شوقى ولكننى شاعر أيضا، الرجل كان لديه حس مستقل واعتزاز بالنفس واعتداد بالذات حتى وإن لم أكن الأعظم إلا أننى مختلف وأمثل نفسى وكان هذا التيار الشاب المقبل بقوة والدماء الجديدة التى تضخ فى عروق الساحة الثقافية هو التيار الذى تصدر المشهد فى الإبداع والإنتاج الأدبى والصحفى.
تذكرت تلك الحكاية منذ عدة أيام بعد سماعى لخبر رحيل الكاتب العظيم الاستثنائى إدوار الخراط، فالخراط من أبناء هذا الجيل الذى رفض أن يقع فى غواية القدماء حتى وإن كانوا على هذا القدر من العظمة، فالخراط ظهر على الساحة الأدبية ونجم الكاتب العظيم عميد الرواية العربية طاغ على الساحة والأصوات الصاعدة تحاول التمسح فى الكتابة الكلاسيكية نسخ باهتة عديدة من نموذج عظيم هو نجيب محفوظ فالمقلد «بكسر اللام» لن يكون أبدا فى براعة وعظمة واتقاد المقلد «بفتح اللام» اختار الخراط الطريق الصعب وهو أن يكون نفسه وأن يكتب تجربته وتألق الخراط كاتبا قصاصا وروائيا ومترجما وتنوعت كتاباته، فنجد الزمن الآخر و«أضلاع الصحراء»، و«يقين العطش» وأيضا روايته العظيمة «رامة والتنين» التى غيرت مسار الرواية العربية وصنعت تيارا مخالفا للسائد فى ذلك الوقت، كما قدم العديد من المسرحيات والكتابات النقدية المهمة، فضلا عن أربعة عشر عملا مترجما من بينها الحرب والسلام للأديب الروسى الأشهر تولستوى!
اللافت فى الحكاية حقا أن من أصر أن يكون نفسه وأن يمضى فى مشروعه المتفرد وغير المقلد هو من صمد وأصبح لونا له خصوصيته وحضوره الطاغى على الساحة وكتب له الخلود أما المقلدون الباهتون فكانوا غثاء السيل ومكث فى الأرض ما ينفع الناس مكث إدوار الخراط ومن سار على دربه مكثوا فى قلوبنا ولم يغادروها وأن غادرتنا أجسادهم وأوجع عيوننا البكاء على رحيله وإن بقيت أعماله الخالدة تطيب جراح القلب، رحم الله إدوار الخراط.