الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

واحة الإبداع: ضرب الودع

واحة الإبداع: ضرب الودع
واحة الإبداع: ضرب الودع




يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 055 كلمة» على الإيميل التالى:    
[email protected]

اللوحات بريشة الفنان الدسوقى فهمى

كتبتها: غادة هيكل

لم تعد تخربش فقد ملت، ولم تعد تحفر فقد رأت فى الأعماق شيب الدهر، لم تعد تكتب فقد فاض مداد القلم مع مياة النهر، جدرانها تراها شاهقة العلو وقد يطبق سقفها عليها فى لحظات، تتسع ومعها حدقة العين فى براح، وتضيق فتغلق الجفون على الأرواح، يمرحون حولها كجراد متكاثر، وتفقد وجودهم كفضاء تجرد حتى من حشراته، قطرات دماء تتناثر تمتزج مع اللون الاحمر الزاهى معلقة على ستائرها تتدلى فى كبرياء وشموخ لم يرهقها الزمن إلا ببعض غبار. هنا تأتى الحقيقة مغلفة ببعض ثمار الكرز الأحمر تتدلى عناقيد العنب الاحمر، حتى طلاء الاظافر صار يسيل بلونه الأحمر والعين يسيل ماؤها تفركه أصابع غمست فى الدم الأحمر. _كرهت اللون ألأحمر _ فى منامي: يتسع المكان تتسابق الألوان قطار فائق السرعة وصبيان تلعب تحت العجلات وشلالات اللون الأحمر تغطى كل المساحات. فى صحوى :يمرحون يتسابقون يغنون يأكلون ويشربون على أنغام موسيقى لبيتهوفن..لا لا..انها موسيقى الرقصة الأخيرة. بعدها تتهاوى أجسادهم تلتحف ذات اللون..اللون الأحمر.. لم تعد ترسمه على شفاهها فقد أصبح ينزف على جدران ضلوعها يرسم لوحاته مع علو صدرها وهبوطه. فلم تعد تخربش ولم تعد تحفر ولم تعد تكتب.
تلك هى حال الامة كلها التى اكتست جدرانها اللون الأحمر فكيف لها أن تتخذ منه زينتها
تمر كل يوم من أمام الباب، بملابسها الغجرية، وشمها المرسوم على كفيها، تحمل بهما صرة بها بعض الرمال والودعات تنادى (ابين زين وأضرب الودع).عشرة ايام على هذا الحال، وهى ترقبها خلف الشباك.
اليوم تناديها فتهرول إليها وكأنها تنتظر هذا الميعاد.
نظرت إلى وجهها الصبوح طويلا، رسمت ابتسامة حزينة على وجهها، بسطت منديلها، وفرشت الرمل، وشوشت الودعات، وضعتها برفق، تبادلت النظرات بينها وبين الودعات، سألتها متلهفة.
قالت:يا ابنتى كم عشت؟
ردت: طويلا.
كيف هو حالك؟
قالت : عسر ويسر
عسر كثير ويسر قليل!
كيف هم أبناءك؟
حملو الصمت على أكتافهم، والخوف بقلوبهم، والذل رداء؟
ومن أغواهم؟
فقر لا يُمنع، وهوان لايُدفع، وطعام لا يُسمن، والكرباج
هل صمتوا؟
وكيف لا، ومن يقدر على البكاء وهو خائف، ومن يحمل القلم وهو جائع، ومن يرد السيف وهو على الرقاب قابع!؟
ومن يحميك؟
يحمينى من وضع فى أرضى السلام وقال أدخلوها بسلام
وأين خيراتك؟
نهبوها اللئام، قسمونى بين فاسد، وسارق، وسلطان.
أليس فيك من الرجال كرام؟
خير جند الأرض جندى بين سمائى وبين أرضى
قالت : اصبرى يا ابنتى سيأتى الخير على يد الصامتين
لملمت ثوبها، وهمت بالمغيب، نادتها: أصبرى، هل ستعودين؟
قالت : بعد حين.
عادت إلى شباكها، تجمع حيرة أمرها، تعاود صدى صوتها ولا مجيب.
رسمت دائرة، أشارت شمالا وجنوبا يمينا ويسارا، لملمت أطرافها، وقبعت فى قوقعتها تنتظر مجئ العرافة.
مرت سنوات، والقوقعة تضيق عليها، والصبر فاض منه الكيل، والحزن خيم على الوادى الفسيح، والنهر صار يئن بداخله، حتى التماسيح والغابات سكنها عواء الذئاب، والعرافة بعيد.
تراه حولها يضوى فى أشعة الشمس وعلى لون المصابيح البيضاء فى الليل وعلى جوانب الطرق المسفلتة حتى التراب شرب منه ونهل حتى قال وا غوثاه.
بشر هم بالصورة ووحوش ضارية بالأفعال حتى الأُسد أصبحت تخشاهم فهذا صوت يئن من حذاء على رقبته وذاك طفل يبكى فى أحضان أُمة مغتصبة وتلك عجوز تنادى فلذة كبدها بين جدران المعتقلات.
وفى خضم حزنها، وخوفها، وصبرها، سمعت طرق الباب، خافت كضوء المصباح، أنصتت، والصوت يعلو رويدا، ترقب، ويزداد ارتفاعا، تقترب فيصير صراخا، تنفرج القوقعة رويدا، تطل براسها الهوينا، فالنور قوى، وعاصفة رعناء تقترب،
والجمع يتهاوى، تصرخ أصمدوا يا أبنائى، يهتفون وا أماه، تزداد العاصفة، يترنحون يسقطون تتناثر دماؤهم الطاهرة،
ينسلون من كل صوب وحدب، انه الطوفان، يرددون الله أكبر، يهللون النصر قادم، يعزفون لحن السلام.
تنحنى لهم القامات، يؤذن المؤذن أن قد نصرنا الله فاثبتو ا، والشهادة أعظم.
تبكى جنينها، قد صار رجلا، سالت دماه على النهر جريا، احتضنه أخيه يحميه صبرا، يسقط شهيد الذل فرحا، يُكتب بدمه الله أكبر.
اليوم خمسا، وغدا عشرا، وبعد أعداد لا تذكر،
إلى متى؟أما زال النهر يطلب دما؟ألم ترتوى ألأرض بعد؟
يأتى أبناؤها، يحملون وردا، يحملون نعشا، يرسمون كفنا، يزينون شهيدا،
لم تعد الأكفان تكفى، وليس هناك مكان ليُدفن، فلتحملهم الأرض جمعا، فهى عليهم وبهم أرحم،
ينادى المنادى أن استسلموا.
تجمع أبناءها، تخشى عليهم من الجبار، أسدا يطلق كلابا تنهش ولا ترحم.
يرفعون راية الحرب لهم أملا، وكتاب الله لهم سندا، فالحق ضياء يشهد.
تأتى العرافة إليها، ابتسامتها ذادت اشراقا، هل تحمل لها بشرى؟
لا تجزعى يا ابنتى فأبناؤك الأحرار قد طهروا لك ثوبك.
تشير مازال هناك دم يُنزف ورقعة منى مهترئة.
ألا يكفيك ربوع الخضراء وشط الابيض حتى النيل قد تطّهر
النيل مازال يئن، والوجع فى جنباتى يؤلم،
آآآآآآآآآآه ما بك؟
هناك ذراع يُقطع، وعدو يتربص، من يصمد؟ من يركع؟
لُفى ذراعك احمى قلاعك هاك الفارس الاسمر، جمع رجاله، يقف كالأسد كالمارد لا يترنح.
أبنائى ما زالو غاضبون، يتناحرون بالكلم أحيانا وبالسلاح حينا، ومنهم من يحذرون وبعضهم محظورون.
نهضت العرافة خرجت من دائرتها، أمسكت بطرف ثوبها :لا ترحلى ما زلت أريد معرفة مستقبلى
قالت: لا يا ابنتى لقد وضعت اللبنات، وسيبدأ البنيان، لا تخشى، لا تخافى اللون الأحمر، قد زال الخطر.
ولكن: أشارت لها: ارفعى رأسك، أنت الأن حرة
إلى هناك أرحل ما زال الدم يُسفك، والموت يخيم، والريح تعصف، لعل وعسى.
رفعت رأسها خطت أولى خطواتها، جمعت أبناءها، وضعت كل منهم يده بيد أخيه، نادت بأعلى صوتها،
واعتصمو بحبل الله، واعتصمو بحبل الله، واعتصمو بحبل الله