الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى «عشق» و«الفنار».. طاقات إبداعية سجينة بين جدران قاعات مجهولة!

فى «عشق» و«الفنار».. طاقات إبداعية سجينة  بين جدران قاعات مجهولة!
فى «عشق» و«الفنار».. طاقات إبداعية سجينة بين جدران قاعات مجهولة!




دائما ما يتميز، جمهور قاعات المسرح الصغيرة بالحساسية الشديدة، للأعمال المقدمة بداخلها، وفى المقابل يكون الممثل والمخرج أكثر دقة، وحساسية فى اللعبة المسرحية، وتحققت هذه المعادلة الصعبة، فى عرضين كلاهما ينتمى إلى مسرح القاعة، وكلاهما ينتمى لعروض مسرح «الديودراما»، وهو العمل الذى يعتمد على البطولة الثنائية، وهما عرضا «عشق» للمخرج محمد متولى، بقاعة مسرح الغد، وعرض «الفنار» للمخرج ماهر محمود، بقاعة مسرح الشباب، بالمسرح العائم بالمنيل، اشترك العرضان فى عوامل أساسية، العامل الأول انهما مسرح قاعة، والثانى أن بطلى العمل يعانيان غالبا من نفس المرض النفسى «الفصام»، أما العامل الثالث والأخير، الجودة الفنية والمهارة التمثيلية الكبيرة، التى تمتع بها كل من رامى الطنبارى فى «عشق» وأحمد عثمان فى «الفنار».
ففى عرض «عشق» الذى يقدمه مخرجه محمد متولى للمرة الثانية، برؤية إخراجية جديدة، حيث سبق وأن قدمه عام 2008 عن نفس النص «تحت التهديد»، لنفس المؤلف أبو العلا السلامونى على خشبة مسرح الهناجر، ولعب بطولته وقتها الممثل علاء قوقة وأمل عبد الله، وحصل العرض فى نفس العام، بالمهرجان القومى للمسرح فى دورته الرابعة، على جوائز أفضل ممثلة، وأفضل ممثل، كما حصل على جائزة، أفضل نص أدبى وأفضل موسيقى لعمرو شاكر، وبعيدا عن الهجوم الذى يتعرض له المخرج، بسبب تقديم العمل للمرة الثانية، وإعادة انتاجه بجهة أخرى، فلسنا هنا بصدد المقارنة أو التنظير، فى فكرة الإعادة لنفس النص، بأبطال جدد، خصوصا أننا اليوم، وفى هذه النسخة الثانية، على وجه التحديد، أمام بطل غير عادى، هو رامى الطنبارى، فهذا الممثل يستحق التوقف كثيرا أمامه، ونسيان ما دون أدائه!
لعب رامى فى «عشق» شخصية مركبة، تحمل قدرا كبيرا من العقد والاضطرابات النفسية، فهو رجل أصيب بحالة اضطراب نفسى شديد، بعد خروجه من السجن، وقرر أن يعزل نفسه عاما كاملا عن العالم الخارجى، وعن زوجته داخل مرسمه الخاص، وطوال هذا العام قام بنحت ثلاثة تماثيل، تمثل شخصيات النائب العام، والقاضى الذى حكم عليه بالسجن، والمحامى الذى لم يستطع إخراجه، من هذه القضية، ثم تظهر أعراض جنونه واضطرابه فى علاقته بزوجته، التى يتهمها دائما بأنها السبب فى سجنه، لأنها هى من اوحت للمحكمة بأنه قاتل، إلى جانب تراكم عقده النفسية منذ طفولته، والتى تسبب بها أباه وزوجة أبيه، والمعروف أن مريض الفصام، يصاب بحالة من العزلة والصمت الطويل والهياج العشوائى، ويكون مصابا دائما بجنون الارتياب فيمن حوله، وهكذا كان الطنبارى، الذى تحمل العبء الأكبر بالعرض المسرحى، فى أداء هذه الشخصية العنيفة والعنيدة والمضطربة نفسيا وإنسانيا، فخلال ساعة كاملة، يضعك هذا الممثل المتمكن والمحترف، تحت تأثير مرضه النفسى العنيف، ومن شدة اتقانه لتفاصيل الشخصية المريضة، لم تستطع لمياء كرم زوجته أن تكون على نفس القدر، من القوة فى الأداء، وبالتالى كان أداؤها أضعف كثيرا، وربما كان يحتاج العمل لممثلة، أكثر قوة وتشبعا بالشخصية، لخلق حالة من التوازن بينهما، كما أن تقسيم المسرح إلى مستويين، لإضافة تعبير حركى مواز، للشخصيتين، لم يكن مؤثرا بالأحداث بالقدر الكافى، خاصة أن الراقص والراقصة، لم يعبرا بشكل واضح عن دراما العرض، فكان يجب أن يراعى مصمم الراقصات طارق حسن، فى تصميمه للتعبير الحركى، أن يكون على نفس قدر قوة الدراما التى يحملها «عشق»، فهما لم يمثلا نفس حالة الاضطراب النفسى، التى تعرض لها أبطال العمل، وبالتالى كان أداؤهم ضعيفاً، ولم يحقق الهدف من ورائه، بعكس ديكور القاعة الذى صممه محمود الغريب، والذى كان موفقا إلى حد كبير فى وضع الجمهور، بأتيليه هذا الرجل المريض، لكن فى النهاية البطل الحقيقى للعرض، والذى بذل جهدا مضاعفا، هو رامى الطنبارى، لأنه استطاع وبجدارة كبيرة أن يأخذك، إلى عالمه الخاص واضطراباته النفسية وهواجسه الكثيرة، سواء التى تخص زوجته أو طفولته، وبالتالى لم ولن تتوقف كثيرا أمام هدوء إيقاع لمياء كرم، أوانفصال الراقصين عن دراما العمل.
تكررت المباراة التمثيلية فى عرض «الفنار»، للمخرج ماهر محمود، وبطولة أحمد عثمان ومحمد درويش، وحمل النص أيضا فكرة مشابهة لحالة الاضطراب النفسى، بسبب تاريخ مشوه فى طفولة أحد عمال الفنار، الذى يعانى من اضطراب حاد بسبب الوحدة، وفقدان الرغبة فى الحياة، فهو شخص بلا هدف أوطموح ويعيش فى عزلته الخاصة، قدم بدقة واحتراف تفاصيل، هذا الاضطراب الشديد الممثل أحمد عثمان، سواء من خلال حركته على المسرح أو لفتاته أو نظراته التائهة والزائغة، وتفكيره المشوش والمضطرب، وفقدانه الحقيقى لتجميع أفكاره، وتعثره فى الجمل، وترديد كلام غير مفهوم، ثم تحوله المفاجئ لشخص عنيف، يكاد يقتل صاحبه وشريكه، فى نفس غرفة الفنار الكئيبة المظلمة، التى تقع فى جزيزة منعزلة عن العالم، لكن هذا الشريك، وهو الممثل محمد دوريش، قد يختلف عنه فى أنه أكثر مرحا، وإقبالا ورغبة فى الحياة، وهنا كانت المبارزة والمباراة فى الأداء التمثيلى، الذى تم داخل قاعة مسرح الشباب الصغيرة، والتى تحولت بالفعل إلى غرفة فنار حقيقية، فاستطاع مصمم الديكور يحيى صبيح ونهى نبيل المنفذة، تحويل هذه القاعة البسيطة إلى فنار، بداية من باب دخول الجمهور للمسرح، حتى القاعة نفسها، إلى جانب فوانيس إضاءة الفنار الكئيبة، التى تم تركيبها بجانبى القاعة، كل هذه المفردات المسرحية، قدمت بصدق شديد، ونجحت فى وضع الجمهور فى نفس حالة الوحدة والكآبة، التى يعانى منها أبطال العمل، فكان الجمهور شريك حقيقى، داخل الفنار فى عرض البحر، وهو ما يؤكد مدى تفوق المخرج والممثلين ومصمم الإضاءة والديكور، فى جعل عناصر العمل تتشابك معا، حتى يتوحد المشاهد مع أجواء العرض الكئيبة، وتحقق ذلك رغم تواضع إمكانيات قاعة المسرح التى يعملون بها.
لكن بالرغم من هذا التفوق الشديد للتجربتين، سواء فى قاعة الغد أو قاعة مسرح الشباب، إلا أن نفس أزمة الجمهور والدعاية، لا تزال تطارد هذه الأعمال الناجحة، التى يبذل فيها مبدعوها جهدا كبيرا، لكن للأسف لا يقابله اهتماما كبيرا، من المسئولين بالبيت الفنى للمسرح، فسوء الدعاية بهذا المكان أصبح يتسبب فى إهدار الطاقات الفنية للعاملين به، وتكون النتيجة أنهم يعملون فى صمت، وكأنهم يقدمون عروضا «سرية» فى أماكن مجهولة، دون أن يراهم أو يشعر بهم أحد، فللأسف امتلك البيت الفنى للمسرح هذا العام، ثروة مسرحية كبيرة، لكنه لم يحسن استغلالها!