الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الرومانسية السياسية فى زمن المصالح

الرومانسية السياسية فى زمن المصالح
الرومانسية السياسية فى زمن المصالح




د. محمد محيى الدين حسنين  يكتب:

من نافلة القول أن مصر كانت وما زالت طوال تاريخها مستهدفة دائما، وان موقعها المتميز جعل كل القوى العظمى التى نشأت حولها عبر التاريخ، وإلى يومنا هذا، تتكالب عليها باعتبارها المدخل الطبيعى للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم فإن قيام دولة قوية على أرضها أمر مرفوض من تلك القوى، ولعل أوضح مثال فى تاريخ مصر الحديث تلك الخطط التى اجهضت حلم محمد على فى إقامة امبراطوريته، واضطرته لسحب قواته إلى داخل مصر والسودان وتحديد قدراته العسكرية، ثم أوقعت خلفاءه فى شراك المديونيات حتى نجحت بريطانيا فى احتلال مصر عسكريا فى عام 1882، والامثلة كثيرة حتى اصبحت وكأن اصل الأشياء أن يتم استغلالنا واللعب بمقدراتنا وألا تقوم لنا قائمة.
دعونا نبتعد عن استخدام نظرية المؤامرة كمسوغ لتبرير أخطائنا ونضعها فى إطارها الصحيح، ونفهم تلك المؤامرات على أنها خطط تضعها القوى الغربية لتحقيق مصالحها الوطنية، بعضها طويل الاجل قد تصل إلى عقود، وبالصبر عليها تصل تلك القوى مجتمعة عندما تتلاقى مصالحها او منفردة إلى ما تريده، ولنا فى التخطيط لقيام دولة إسرائيل خير مثال لذلك، ومن الغريب أن معظم تلك الخطط منشور ولكننا لا نقرأ بما فيه الكفاية وإن قرأنا لا نحسن التفسير أو وضع خطط لمواجهتها، ومن الغريب أيضًا أن خطط الغرب ضدنا المنشورة منها والسرية، على السواء، لم تأت بجديد، ليس فقط فى الأهداف ولكن فى التنفيذ أيضًا، وتعتمد فى ذلك على التقسيم والتجزئة وإثارة النعرات الطائفية والعرقية، ولا مانع من استخدام بعضنا بحسن أو بسوء نية منهم للتعاون معهم، وما زال المسلسل مستمرًا، ففى اعقاب الحادى عشر من سبتمبر 2001 بدأت مراكز الأبحاث الاستراتيجية فى الولايات لأمريكية فى وضع خطط الجيل الرابع من الحروب، ورغم أن ذلك منشور منذ مدة إلا أننا لم ننتب لها إلا عندما فقدنا أربع دول عربية وتزايدت الضغوط على مصر لتركيعها والسيطرة عليها.
وإذا كان عالم اليوم يعتمد على السعى وراء تحقيق المصالح الوطنية، فإن هذا الاصطلاح مازال مرادفا فى السياسة العربية لمفهوم الانانية، فحين نتحدث عن مصالح مصر الوطنية نتهم بأن ذلك يتنافى مع المصلحة القومية، واننا بصدد تجاهل تلك المصالح، ومهما ارتفع صوتنا بأن الأمن القومى لمصر ومصالحها جزء لا يتجزأ من امن المنطقة كلها ومصالحها، وأن تحقيق كل دولة عربية لمصلحتها يقوى ويدعم مصالح الأمة كلها، ومع ذلك تتكرر الاتهامات فى كل مناسبة يأتى فيها ذكر مصالحنا الوطنية، ومن ثم فقد تميزت احاديثنا بالرومانسية السياسية التى وقفت حائلا امام تحديد ما هى تلك المصالح لمصر او وضع آلية لتحقيقها، ونكتفى باللوم والعتاب والاستهجان او حتى تطمينات ممن نتوهم أنهم اصدقاء ثم نفاجأ بهم وقد نجحوا فى الوصول إلى ما يريدونه على حساب مصالحنا، وعلى المتضرر أن يلجأ إلى مجلس الامن الواقع تحت سيطرة تلك القوى والنتيجة توالى الخسائر والهزائم.
آن لنا أن نتوقف عن تلك الرومانسية التى ثبت فشلها ونتبنى سياسات عملية تعتمد على نهج علمى يتفهم أن للآخرين مصالحهم يعملون على تحقيقها ولكننا أيضا لنا مصالحنا يجب ان نعمل على تحقيقها، وأن نتوقف عن الاعتماد الكلى فى تحديدها على اجهزة الدولة الرسمية فقط، وربما كانت مراكز البحوث المستقلة او التابعة للجامعات خير مكان لاستقاء المعلومات وتحليلها واتباع نتائجها لرسم سياسات تتمشى مع العصر، ونحن فى هذا لسنا مبتدعين، فحين ارادت المخابرات الأمريكية أن تتفهم اوضاع الشرق الاوسط ورسم خططها وتحديد سبل التعامل معه انشأت او شاركت فى انشاء مئات المراكز البحثية المتخصصة فى دراسات الشرق الأوسط من جميع الوجوه، وتعاملت بجدية مع دراسات تلك المراكز.
 إن الموقع الجغرافى لمصر وخيراتها تتطلب منا اليقظة باستمرار والتعامل مع الواقع لمواجهة خطط الطامعين فيها، فليس لدينا ترف الغفلة او الاسترخاء فذلك قدرنا، وربما حان الوقت لتغيير المنهج الرومانسى الذى عفى عليه الدهر، وأن نتعلم الدرس ونحدد أولوياتنا بعقل بارد بعيدا عن رومانسية أخلاق القرية لنتعرف على الثغرات التى ينفذ منها الآخرون للسيطرة على مقدراتنا.