الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

انتصار عبد المنعم: كتاباتى تملأ فراغات التاريخ وتحتفى بملح الأرض

انتصار عبد المنعم: كتاباتى تملأ فراغات التاريخ وتحتفى بملح الأرض
انتصار عبد المنعم: كتاباتى تملأ فراغات التاريخ وتحتفى بملح الأرض




حوار - خالد بيومى


انتصار عبد المنعم روائية وقاصة وكاتبة أدب أطفال من الإسكندرية، تزدحم رواياتها بالأحداث والوقائع والتداخل فى الأزمنة والاعتماد على أسلوب الاسترجاع فى رواية المواقف والمشاعر، يجعل منها شهادة على العصر كاشفة ومعبرة ومزدحمة بالتفاصيل التى ترصد حياة المهمشين والمطحونين فى المجتمع، فازت بالمركز الأول فى القصة القصيرة بمسابقة إحسان عبدالقدوس، وجائزة دكتور عبد الغفار مكاوى باتحاد كتاب مصر عن مجموعتها (عندما تستيقظ الأنثى) وحاصلة على المركز الأول فى مسابقة سلسلة الكتب الثقافية للأطفال لمكتب التربية العربى لدول الخليج، وتم اختيارها للتكريم عن أديبات مصر فى أول مؤتمر لأدباء مصر بعد ثورة 25 يناير أصدرت من قبل مجموعتين قصصيتين، «عندما تستيقظ الأنثى» و«نوبة رجوع»، ثم كانت روايتها التى جذبت إليها الانتباه «لم تذكرهم نشرة الأخبار وقائع سنوات التيه». تلك الرواية التى وقّعت عقد طبعتها الثانية أسفل كوبري» 45 ميامى» بين المارة وبائعى الزهور وغيرهم من البشر الذين لم يلتفت إليهم الإعلام المصرى وتجاهلتهم نشرات الأخبار.
■ فى رواياتك (لم تذكرهم نشرة الأخبار/وقائع سنوات التيه) تشويق وإثارة... من هم هؤلاء الذين تجاهلتهم نشرات الأخبار؟
- هم ملح الأرض، أى المواطن المصرى العادى الذى تنعكس على حياته كل الأزمات السياسية والاقتصادية، وعلى الرغم من ذلك فهو يبقى دوما بعيدا عن دائرة اهتمام الإعلام الذى يهتم فقط بالمسئولين عن كل هذه الأزمات.  العنوان يعبر عن واقع البلاد فى ظل النظام السابق فقد تعودنا طوال سنوات عجاف مضت أن تخرج علينا نشرات الأخبار كل يوم بتصريحات وتوجيهات الرئيس، وتحركاته مع حاشيته من كبار رجال الأعمال لتفخيمهم ليل نهار، بينما هناك ملايين البشر لا يهتم بهم الإعلام الحكومى، ولا نسمع عنهم شيئًا فى تلك النشرات وموجزا الأنباء، فهم لا يمثلون أهمية لأحد، هؤلاء البسطاء هم الشعب، ملح الأرض وخبزها وقد سقطوا من ذاكرة الحكومة، أما العنوان الجانبى «وقائع سنوات التيه» فيشير الى سنوات القهر والذل التى عانى منها البسطاء على مدار العشرين عامًَا الأخيرة من حقبة الفساد التى انتهت بثورة 25يناير، وعندما نفدت الطبعة الأولى لروايتى وطلب منى الناشر توقيع عقد الطبعة الثانية، أردت أن يكون الحدث قريبًا من هؤلاء المهمشين فى الإعلام فحضر الناشر من القاهرة إلى الإسكندرية ليوقع عقد الطبعة الثانية من الرواية فى الشارع، بحضور الناس الذين لم تذكرهم نشرات الأخبار من المارة والسائقين وبائعى الزهور أسفل كوبري «45 بميامى» ووقعت مرتكزة على ظهر سيارة فاخرة.
■ هناك تداخل بين القمع السياسى والاجتماعى... فهل روايتك احتجاج على الفساد؟
 لو نظرنا إلى الواقع سنجد أن حياتنا الحقيقية لا تنفصل فيها تلك الجوانب عن بعضها، فالحالة السياسية تنعكس على الوضع الاقتصادى والاجتماعى، والعمل الروائى صورة للحياة، ولكن طريقة التناول السردى، وعمق تجربة الكاتب هما ما يحددان جودة الرواية، كما أن قماشة الرواية مرنة وتمكن الروائى من أن يضمنها جوانب عديدة ومتنوعة، وأنا كتبت عما أعلم وعايشت من أحداث وظروف اجتماعية تأثرت بالحالة السياسية كواحدة من أفراد المجتمع الذى أكتب عنه.
■ هل تعتقدين أن هذا دور الأدب؟
- الأدب هو مرآة للمجتمع بشكل أو بآخر،  وقد يعكس حال المجتمع بصورة مباشرة كما تفعل المرآة، أو قد يلجأ الكاتب إلى عدم المباشرة والرمز، ولكن فى كل الأحوال، رواية (لم تذكرهم نشرة الأخبار) تعكس ثقافة ومشكلات المجتمع فى الزمن الذى كتبت فيه، وتتعاطى مع الحياة فى مصر والتى كانت تتأزم يومًا بعد يوم، فالمشكلات كانت تفرخ أزمات أخرى، وحاولت فى «وقائع سنوات التيه» رصد المجتمع من خلال الأسرة المتوسطة بواقعية شديدة. والعمل الأدبى ليس معنيًا بطرح الحلول المباشرة، ولكنه يتناول المشكلة ويبين خطورة تجاهلها.
■ ألا تخشين أن تتحول أحداث الرواية إلى مناسبات خاصة بتاريخ معين وتصبح الرواية أدب مناسبات غير ممتدة زمانيا فى المستقبل؟
- الرواية لم تكن رواية تاريخية تتناول أحداثا بمعزل عن المجتمع ولذلك فهى ليست رواية مناسبات، بل إنى فى نهاية الرواية لم أكتب (انتهت) أو (النهاية) بل كتبت (البداية) وهذا اشارة إلى أننا ندور فى حلقة مفرغة وبصورة دائرية فما زالت كل المشكلات التى تناولتها فى الرواية قائمة إلى اليوم بل وتتفشى. بل إن مصائر كل الأبطال بقيت معلقة. فلم يكن من المنطقى أن أختتم الرواية مثل الأفلام العربية فى حقبة الستينيات حين كانت تنتهى بزواج البطل من البطلة ودخول الشرير السجن، لو فعلت ذلك فسأكون مخالفة ومزيفة للحقائق، فقد كتبت الرواية على مدار ثلاث سنوات، ولم أجد فى يوم من هذه السنوات ما يشير إلى انفراج الأزمة لدى أى من شخوص الرواية، فمشكلات الجميع واقعية، والحل مرتبط بتغير الواقع المعاش فعلا، مثلا الدوافع التى جعلت ماجد يهرب إلى إسرائيل مع «نتاشا» راقصة البلشوى المعتزلة، ليتساوى مع من يلجأ إلى الهجرات غير الشرعية فى القوارب المتهالكة التى تفضى بالكثيرين لفقد حياتهم.  فتسلل ماجد إلى إسرائيل عقب انهيار الحاجز الأمنى فى رفح، جاء نتيجة طبيعية لانعدام فرص العيش بكرامة فى وطن - يراه ماجد- فاتحا ذراعيه للغرباء و«الخلاسيين» ويمنحهم حقوقه وحقوق كل الشباب المصرى التى اغتصبت، فلا يوجد هناك فرق كبير بين السفر إلى إسرائيل أو الموت غرقًا ودفع طارق الى ترك وطنه بحثًا عن فرصة للعمل بعيدًا عن واقعه المهين، كلها تعبر عن مشكلات مزمنة إلى اليوم الحالى.
■ هناك اهتمام بالمكان وتفاصيله والعادات.. ما علاقتك بالمكان؟
- المكان هو اللوحة التى أنثر عليها ألوان العمل الروائى. فأهمية الإسكندرية وبحرها وأحيائها التى دارت فيها بعض أحداث الرواية، تماما مثل أهمية الدور الذى لعبته الغردقة ثم جدة. كان اهتمامى بتفاصيل المكان وإن كان فى المقام الأول للمصداقية فى التناول، إلا إنه يخدم العمل نفسه، فطارق الذى كان يعيش فى الإسكندرية غير طارق الذى غادر وطنه، وماجد الذى تربى فى مناخ مصرى خالص لأب يعمل فى جهاز من أخطر أجهزة الدولة غير ماجد الذى تسلل إلى إسرائيل ، كلهم يتبدلون ما إن يغادروا أرض الوطن تماما مثلما تغيرت كلمات (على بلد المحبوب) وصوت أم كلثوم ليحل محلها صوت غريب ولغة غريبة.
■ ماذا عن الإسكندرية فى كتابات انتصار عبد المنعم؟
- الإسكندرية بالنسبة لى هى البحر والبشر البسطاء الملاصقين له والذين يتعيشون مما يمنحه لهم البحر من جوفه أو مما يتيحه لهم من براح يبيعون عليه منتجات أيديهم، وليس هؤلاء المنتفشين ورثة الثقافة الهيلينية أو المتمحكين بها. وعندما أتحدث عن الشاطئ الذى تم بيعه وتخصيصه وسجنه وراء أسيجة لا أستطيع تجاوزها إلا بدفع المقابل المادي، فأنا فى نفس الوقت أتحدث عن حال مصر كلها. فالبحر الذى كان رمزا للحرية، تم أسره وتقييده فلا غرابة لو وقع الإنسان نفسه سجين وطنه.
ولكن من الممكن أن أقول أن هناك سمات تميز الرواية والقصة التى يكتبها سكندرى عن غيرها مما يكتبه كاتب قاهرى، فمثلا البيئة البحرية والعلاقة الحميمة مع البحر والرمال والمراكب ومفردات الصيد كل هذا يميز الأدب المقترن بالإسكندرية، ولكن بالمقابل سنجد أن هذه السمات مشتركة أيضا مع أى مدينة ساحلية تطل على الأبيض المتوسط. لكن هناك خصوصية للمكان حين نكتب عنه فمثلا فى رواية «لم تذكرهم نشرة الأخبار» هناك مشكلة بيع شاطئ البحر وحرمان المواطن السكندرى من التمتع ببحره قبل أن يدفع المقابل للمستثمر الذى استولى على الشاطئ ليقيم كافيتريا أو مرسى لليخوت للفندق الفخم، وهناك أيضا مشكلة التفرقة بين أماكن السكن وفقا للموقع من شريط القطار بين قبلى للعامة  وبحرى للصفوة، أقصد أن التمييز أو التصنيف لا داعى له ومن الأفضل أن ننظر إلى كل عمل كبناء قائم له ميزات وخصائص من الطبيعى أن تختلف باختلاف المكان والزمان .
■ هناك اقتباس لمقولات إحسان عبدالقدوس وسوفوكليس.. هل هناك موقف ثقافى من ذلك؟
يمثل إحسان عبد القدوس رمزا للحرية والتحرر، ليس كما يعتقد البعض حرية الجسد أو ابتذاله، بل العكس تماما، كنت أرى فى كتاباته نوعا من «لفت النظر» لقيم تتفسخ، أو شعارات ترفع تحت دعاوى الحرية، بلا جدوى أو تطبيق من قبل من يتشدقون بهذه الكلمات أنفسهم. تلك الازدواجية التى دفعت بالمناضلة (أروى صالح) إلى إنهاء حياتها بعد ضاقت بها الحياة المزدوجة التى لم تستطع التعايش معها، أما سوفوكليس فهو يمثل لى الحكمة والعقل.   
■ إذا قدمت انتصار عبد المنعم لثورة يناير؟
- فى احتفالية تسلم الجائزة ليلة 24يناير كنت بالقاهرة وفى نقابة الصحفيين، ورأيت بداية الاستعداد لليوم التالي، اعتقدت أن الحدث لن يتعدى سلم النقابة كالعادة وبعض المسيرات المتفرقة هنا وهناك، وقبيل الفجر بقليل عدت إلى الإسكندرية مستبعدة حدوث أى شئ خارق للمعتاد، ثم خرجت مع ابنى (محمد) لنشارك بنصيب فى هذا الحدث الذى أصبح ثورة. قمت بعملية تصوير ورصد المسيرة السلمية التى تحولت إلى صدامات وأحداث دامية، وفعلت نفس الشىء فى يوم «جمعة الغضب» 28 كانون الثانى ( يناير) وفى غيرها من الأيام. قصة ماجرى لى وفقدى لابنى بعد أن تم الاعتداء علينا أمام المنطقة العسكرية الشمالية هو مادة روايتى الجديدة (جامعة المشير/مائة عام من الفوضى)... 
■ هل كتبت النص الذى تحلمين به؟
بدأته منذ عامين تقريبا، ومازلت أكتب فيه ولربما لعام آخر وهو رواية جديدة تنطلق من حدث تاريخى لأنسج عليه رواية (جوكات)  التى تدور فى فضاء مكانى وزمانى مدهش لغرابتهما.
■ لماذا تكتبين؟
على خلاف من قال: (نكتب لنتطهر)، فأنا أكتب لأقترف كل شىء فاتنى، لأرتكب كل ما تحاشيت فعله، أكتب لأكمل صورة كادت تكتمل لولا اتساع المسافة وتباعد الزمن. أكتب لأتوحد مع المـــوج أنسج منه بحـــرا يضمنى وقت الشوق الجامح وهجا، حتى إذا انتشيت، وأرهقتنى أحرف اللغة تلبسا، لملمت روحى النازفة سردا، لأعود إلى الواقع كى أتطهــر من خطايــا الـــورق. أكتب لأكمل فراغات الأسئلة التى أبقاها التاريخ عالقة بلا أجوبة. فالسؤال الذى كان دوما يؤرقني: ماذا لو....؟ وتأتى (لو) لأنسج عليها عملا روائيا، أو قصة قد لا تتعدى حجم الكف ولكنها بطول زمن من الأسئلة.