الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

قاهرة المعز من أبواب «جوهر الصقلى» إلى أسوار «الكومباوند»

قاهرة المعز من أبواب «جوهر الصقلى» إلى أسوار «الكومباوند»
قاهرة المعز من أبواب «جوهر الصقلى» إلى أسوار «الكومباوند»




تحقيق - منى صلاح الدين

لا تزال القصص والأساطير تنسج حول أبواب مدينة القاهرة، التى أنشأها جوهر الصقلى، وزاد عددها خلال العصور «الأيوبية - المملوكية - العثمانية»، وترتبط بأحداث سياسية واجتماعية، ورغم أن «نابليون بونابرت» أزال الكثير من أبواب القاهرة الضخمة، فقد استطاع المصريون تخليدها بإطلاق بعض أسمائها على أحياء سكنية مثل أبواب «الشعرية - البحر - الخلق - الحديد - الوزير».

 

الغريب أن أبواب المدينة عادت مرة أخرى للظهور منذ سنوات، عندما فضل بعض المصريين السكن داخل ما يسمى بـ«الكومباوند» أو القرى والمنتجعات التى تغلق على من يسكنها بواسطة أسوار ذات البوابات الضخمة.
«بقيت المدينة كعهدها يخفق قلبها بنبض وأحلام أبنائها، وتنظر عيناها ببريق الغد إلى القادمين، يدقون على أبوابها ويسألون عن الطريق، فبهذه الكلمات أنهى أسامة أنور عكاشة مسلسله الشهير الذى أنتج عام 1980، «يوميات الناس والمكان.. على أبواب المدينة»، والذى ما زال يتذكره الكثيرون، خاصة أغنيته الشهيرة للفنان على الحجار، والتى تضمنت «على أبواب المدينة.. على أبواب المدينة.. دقينا ونادينا ولا حد حاسس بينا.. بكينا ومشينا تايهين يامين يلاقينا».
الدكتورة سهير حواس - أستاذ العمارة بهندسة القاهرة - ترى أن كلمات أغنية المسلسل ليست بعيدة عن حكايات المواطنين مع أبواب المدينة والكومباوند، علاوة على أنها وصفتها بـ«الجيوب العمرانية»، لأنها غير مندمجة مع ما حولها من عمران، ناهيك أنها نجحت فى حل بعض المشكلات التى عجز عن حلها اتحادات الملاك وإدارات الأحياء مثل صيانة المبانى والاعتناء بالمخطط العمرانى والشوارع والأرصفة، لكن الأزمة هى إذا اتسعت مساحة الكومباوند فإنها تفتقر لتلك المميزات، ويتم التأثير على جودة الخدمات، كما حدث فى قرية مارينا السياحية.
وواصلت: تاريخيا فإن فكرة القرى المغلقة ليست جديدة على المجتمع المصرى، منذ عصر بناة الأهرامات الذين عاشوا فى تجمعات خاصة بهم، علاوة على أنه فى خمسينيات القرن الماضى أقيمت مدن خاصة لسكن عمال بعض الشركات مثل «المحلة - سكر الحوامدية»، وكان أجملها «مستعمرة الكهرباء» الموجودة فى شبرا، وهى عبارة عن مجموعة من الأبنية والفيلات المجهزة بالخدمات، وكان يسكنها عمال ومهندسو شركة الكهرباء، كما عرفت مصر أيضا من قبل «الخنقاوات» التى كانت تبنى كسكن لطلاب العلم.
ويقول د. على ليلة - أستاذ الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية - إن لجوء البعض للسكن فى كومباوند، يعود لأسباب اجتماعية لشريحة من الناس تريد أن تشعر بأنها مميزة عن الآخرين، وإن من يريد الوصول إليهم لابد أن يعبر أبوابا ضخمة ذات حراس، ويدخل من باب الزائرين وليس المقيمين، الذين يميزون أنفسهم بوضع إشارات أو ملصقات تحمل اسم الكومباوند على سياراتهم، وهو الأمر الذى يزيد من حقد بعض الضعفاء عليهم والرغبة فى الانتقام منهم، بعد حصولهم على مكانة اجتماعية استطاعوا الحصول عليها بأموالهم الطائلة.
ويربط د. سعيد عبدالخالق - الخبير الاقتصادى - بين ثقافة عصر الانفتاح وما نتج عنه من ظهور طبقة من الأغنياء تريد الشعور بالتميز والحماية، وبين انتشار القرى والكومباوند المغلقة على سكانها بأبواب وحراسات خاصة لا تسمح للعامة بالاقتراب منها، مرجحا أن الفروق الكبيرة بين طبقات المجتمع، وسوء توزيع الناتج المحلى على جموع المواطنين رغم ارتفاع معدلات النمو لـ7% قبل ثورة يناير 2011 هى أهم الأسباب وراء انتشار «الكومباوند».
أما المهندس سيف الله أبو النجا - رئيس جمعية المعماريين المصريين - فيرى أن نموذج المحلة الكبرى الذى أقيم فى عشرينيات القرن الماضى لم يكن إيجابيا، خاصة أنه لم يسمح للمجتمع الصناعى الجديد القادم من مناطق مختلفة، بالنمو بشكل متدرج حتى تنشأ العلاقات الاجتماعية والقيم المشتركة بين سكانه، حيث إنه أقام سورا ضخما فصل مدينة العمال عن المصانع ومدينة المحلة.
ويلفت أبو النجا إلى أن النموذج الإيجابى فى إنشاء مجتمعات جديدة ليست مغلقة على قاطنيها «مصر الجديدة - المعادى» اللذين تميزا بتعدد الطبقات، حيث اهتم مخططها المعمارى ببناء مجتمع «تشاركى» تربطه علاقات إنسانية واجتماعية من خلال ضمهما الطبقات «الأغنياء - الوسطى - الفقراء»، مشيرا إلى أن انتشار الكومباوند والمنتجعات فى السنوات الأخيرة يرجع إلى فكرة بيع الأراضى بالمزاد العلنى ما أدى إلى ارتفاع أسعار الوحدات السكنية التى يتم تشييدها على تلك المساحات، مثل «مدينة الرحاب - مدينتى»، ما انعكس بدوره على جذب الأغنياء إليها.
الدكتور عبدالمنصف سالم - أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية بجامعة حلوان - يرى أن فكرة حماية وتأمين المدن والعواصم بالأسوار ذات الأبواب الضخمة، ترجع إلى الفرس مثلما فعلوا بمدينة «أصفهان»، ومنها انتقلت إلى العراق عام 133 هجرية، فى عهد الخليفة الفاطمى أبو جعفر المنصور، ثم انتقلت إلى مصر فى عهد الدولة الفاطمية، منذ تأسيس مدينة القاهرة على يد جوهر الصقلى، قائد قوات الخليفة المعز لدين الله الفاطمى، والتى خصصت لسكن الخليفة وجنوده.
ويلفت عبدالمنصف إلى أن الصقلى أراد أن يبنى حول القاهرة سورا طويلا يتخلله 8 أبواب من الخشب المصفح، تحتوى على وسائل دفاعية لإطلاق السهام، وفتحات لصب الزيت المغلى، وأبراج للمراقبة، حتى يحمى دولته الجديدة من هجمات المصريين، إذا ما ارتدوا على حكم الخليفة الفاطمى، إضافة إلى أن مصر أصبحت دار خلافة ولم تكن مجرد دار إمارة، فكانت الأسوار والأبواب وقاية من شر الأعداء وحفاظا للهيبة، لافتا إلى أن تلك الأبواب تعد نوعا من أنواع العمارة الحربية الإسلامية التى انتقلت إلى أوروبا فى العصور الوسطى.
ويكمل د. محمد الكحلاوى - أستاذ العمارة الإسلامية بجامعة القاهرة - إلى أن أبواب الأحياء والحارات انتشرت فى العصر العثمانى لحماية السكان، وكانت تغلق على أصحاب «المهنة - الديانة - الطائفة الواحدة» مثل حارات «الروم - اليهود - الوايلى»، وبعدها تغير أسلوب الحماية بواسطة هذه الأبواب مع ظهور الدولة الحديثة فى عصر محمد على باشا وما بعده، لكن القائد الفرنسى نابليون بونابرت قرر إزالة جميع الأبواب من الأحياء والحارات لتوسعة الشوارع وتطهير القاهرة من القمامة والأوبئة، وحتى يسهل السيطرة عليها بوضع مدافعه فوق أبوابها مع الحملة الفرنسية على مصر، الأمر الذى خسر مصر ثروة معمارية مهمة.
وينوه الكحلاوى إلى أن محمد على باشا، حصن القاهرة من الشمال بالقناطر الخيرية ومن الجنوب بقلاع وطوابى فى منطقة طرة، وهذا الفكر تغير فى عهد الخديو إسماعيل الذى نقل الحكم من المدينة المحصنة بأسوار وأبواب فى القلعة، لأول مرة منذ عصر الأيوبيين، إلى قصر عابدين الذى تواجد فى المدينة التى يعيش فيها عامة الشعب، وشجع الأغنياء على بناء الأحياء الجديدة كالزمالك ووسط القاهرة، ففتحت أحياء الأغنياء على أحياء الفقراء دون أية حواجز.
ويتابع د. مختار الكسبانى - أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة - أنه فى القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20 حل «شيخ الحارة» و«الفتوات» محل تلك الأبواب، فكان شيخ الحارة هو صوت السلطة الحاكمة ولديه جميع المعلومات عن سكانها، أما الفتوة فكان يمثل الجانب الأمنى الذى يساعد السلطة فى حماية السكان مقابل أجر مادى يجمعه منهم، منوها إلى أن أبواب المدينة والحارات حققت أهدافا اقتصادية فى عصورها كمنع السرقة وسهولة جمع الضرائب، ومعرفة عدد السكان.
ويوضح أن أبواب القاهرة الـ21 لم يتبق منها سوى 3 أبواب هى: «زويلة - الفتوح - النصر»، والأخير عبرت منه الجيوش المصرية المنتصرة، ومر خلاله السلاطين «الظاهر بيبرس - سيف الدين قلاوون - الأشرف خليل - الناصر محمد بن قلاوون»، يحملون معهم أسرى أعداء مصر، وبناه جوهر الصقلى عام 1087 ميلادية، ويعد من أهم الآثار الحربية التى بقيت فى مصر من العصور الوسطى.
ويشير الكسبانى إلى أن باب «زويلة» تمت توسعته فى 1091 ميلادية فى عهد أمير الجيوش بدر الدين الجمالى، ويعد أكبر أبواب القاهرة الفاطمية وأجملها لاحتفاظه بعناصره وزخارفه المعمارية من عقود وقباب، حيث يطلق عليه البعض باب المؤيد، لوجود مئذنتى جامع المؤيد أعلى بوابتيه، كما أنه أصبح رمزا لمحافظة القاهرة، وعرف أيضا بين عامة الشعب باسم باب «المتولى» وهو ذلك الرجل الذى كان يجلس بجوار باب «زويلة» لجمع الضرائب وتحصيل الرسوم من العابرين من وإلى القاهرة، إلى جانب أن باب «زويلة» عرفه التاريخ أيضا عندما علقت عليه رءوس رسل «هولاكو» الذين جاءوا للسلطان المملوكى «قطز»، برسالة تهديد لمصر، كما شنق عليه «طومان باى» الذى قتله السلطان العثمانى «سليم الأول».
ويلفت إلى أن أبواب القاهرة التى كانت تقع فى الجانب الغربى من أسوارها التى تطل على مجرى الخليج المصرى زالت جميعها، ولم يتبق منها سوى ذكرياتها، متمثلة فى أسمائها التى أطلقت على الأحياء السكنية مثل «باب سعادة» نسبة إلى «سعادة بن حيان»، غلام «المعز لدين الله» الفاطمى، وباب القنطرة الذى سمى بهذا الاسم للقنطرة التى بناها «جوهر الصقلى» فوق مجرى الخليج المصرى لتصل بين الأحياء الشرقية للقاهرة والغربية فى منطقة المقس فى مكان حى الأزبكية الآن. جدير بالذكر أن أشهر أسماء الأبواب فى القاهرة وأحيائها «القوس - الخوخة - الشعرانى البرانى - الفرج - الخلق - اللوق - الزهومة - الذهب - الزمرد - الديلم - تربة الزعفران - البحر - الحديد - الوزير - الصفا»، وأشهر البوابات هى بوابات «حديقة حيوان الجيزة - حديقة الأورمان - جامعة القاهرة - المتحف المصرى - قصر عابدين».