الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

يحيى حقى عازف الكلمات

يحيى حقى عازف الكلمات
يحيى حقى عازف الكلمات




إعداد - رانيا هلال

تمر بنا هذه الأيام ذكرى ميلاد عازف الكلمات الفذ الكاتب يحيى حقى والذى يعد رائد فن القصة القصيرة العربية؛ فهو أحد الرواد الأوائل لهذا الفن الذى يدين له بالكثير مما وصل إليه من نضج، وما بلغه من انتشار واسع، وقد خرج من تحت عباءة ذلك الرائد المبدع الذى كان يعمل فى صمت ويكتب فى هدوء كثير من الكتاب والمبدعين فى العصر الحديث، وكانت له بصمات واضحة فى أدب وإبداع العديد من أدباء الأجيال التالية.
  المولد والنشأة
ولد «يحيى محمد حقى» فى 7 يناير 1905م، ونشأ فى «درب الميضة» بحى «السيدة زينب»، وكانت عائلته ذات جذور تركية قديمة، وشب «يحيى حقى» فى جو مشبع بالأدب والثقافة، فقد كان كل أفراد أسرته يهتمون بالأدب مولعين بالقراءة، فخاله «حمزة بك» كان يشغل وظيفة رئيس القلم العربى فى ديوان الخديو إسماعيل، وله نماذج من الإنشاء حواها كتاب «جواهر الأدب»، وعمه هو «محمود طاهر حقى» الذى امتلك فى شبابه مجلة «الجريدة الأسبوعية»، وكان أحد رواد فن الرواية، وقد كتب عدة روايات منها: «عذراء دنشواى»، و«غادة جمانا»:
أما والده «محمد حقي» فقد كان موظفًا بوزارة الأوقاف، وكان محبًا للقراءة والثقافة، وكان مشتركًا فى عدد كبير من المجلات الأدبية والعلمية والثقافية، وكانت أمة كذلك حريصة على قراءة القرآن الكريم ومطالعة الكتب الدينية.
فى هذا الجو الدينى الذى يظله الحب ويشع فيه التفاهم وترفرف فيه السعادة نشأ يحيى حقى لتتشبع روحه ووجدانه بالقيم الدينية الأصيلة، وتتشرب بالأخلاق الفاضلة، والقيم الإنسانية النبيلة والمثل العليا.
 أسماء الأنبياء
وكان يحيى حقى ثالث سبعة إخوة: خمسة ذكور، وبنتان، وكان إخوته الذكور يحملون جميعًا أسماء أنبياء؛ فأكبرهم «إبراهيم» الذى بدأ حياته بالكتابة الأدبية فى مجلة «السفور»، وثانى إخوته «إسماعيل» الذى عمل بالتدريس فى بعض المعاهد المصرية وجامعة الملك سعود، وترجم كتبًا فى الفلك والفضاء، ثم «زكريا» الذى عمل طبيبًا، و«موسى» الذى تخرج فى كلية التجارة ثم حصل على ماجستير فى السينما، أما الأختان فهما «فاطمة»، و«مريم».
فى هذا الجو نشأ «يحيى حقي» متأثرًا بالأدب القديم والحديث، فقرأ لعدد كبير من أدباء العرب القدامى كالجاحظ وأبى العلاء، كما تأثر بعدد من الكتاب الغربيين مثل «فرجينيا وولف»، و«أناتول فرانس».
 يحيى حقى فى صعيد مصر
عمل «يحيى حقى» معاونًا للنيابة فى الصعيد لمدة عامين من 1927م إلى 1928م، وكانت تلك الفترة على قصرها أهم سنتين فى حياته على الإطلاق، وهو يفسر ذلك بقوله: «أتيح لى أن أعرف بلادى وأهلها، وأخالط الفلاحين عن قرب، وأهمية هاتين السنتين ترجع إلى اتصالى المباشر بالطبيعة المصرية والحيوان والنبات، والاتصال المباشر بالفلاحين والتعرف على طباعهم وعاداتهم».
وقد انعكس ذلك على أدبه، فكانت كتاباته تتسم بالواقعية الشديدة وتعبر عن قضايا ومشكلات مجتمع الريف فى الصعيد بصدق ووضوح، وظهر ذلك فى عدد من أعماله القصصية مثل: «البوسطجى»، و»قصة فى سجن»، و«أبو فروة».
كما كانت إقامته فى الأحياء الشعبية من الأسباب التى جعلته يقترب من الحياة الشعبية البسيطة ويصورها ببراعة وإتقان، ويتفهم الروح المصرية ويصفها وصفًا دقيقًا وصادقًا فى أعماله، وقد ظهر ذلك بوضوح فى قصة «قنديل أم هاشم»، و«أم العواجز».
 فى السلك الدبلوماسى
التحق يحيى حقى بعد ذلك بالسلك الدبلوماسى، وقضى نحو خمسة عشر عامًا خارج مصر، وقد بدأ عمله الدبلوماسى فى جدة، ثم انتقل إلى تركيا، ثم إلى روما، وعندما عاد إلى مصر إبان الحرب العالمية الثانية عين سكرتيرًا ثالثًا فى الإدارة الاقتصادية لوزارة الخارجية، وظل بها نحو عشر سنين.
وفى تلك الفترة تزوج من السيدة «نبيلة» ابنة «عبد اللطيف بك سعودي» عضو مجلس النواب، وكان ذلك فى 1943م.
وبدخوله هذه الأسرة وجد يحيى حقى نفسه فى غمار التاريخ، يقول: «دخلت فى هذه الأسرة فإذا بى أدخل فى بحر خضم لا شاطئ له من تاريخ مصر وأجيال مصر منذ حكم إسماعيل إلى الفترة التى أعيش فيها، تروى لى بأدق التفاصيل وبأدق الأسرار من حمايا المرحوم الأستاذ عبداللطيف سعودى.. فكان لهذا الرجل فضل كبير على فى أنه بصرنى بأشياء كثيرة لا يعلمها إلا هو فى تاريخ مصر الحديث»..
وبالرغم من زواج يحيى حق» من السيدة «جان» الإنجليزية بعد وفاة زوجته الأولى بفترة طويلة فإنه ظل يذكر تلك السيدة التى عرف معها السعادة ولم تجنِ غير الألم، وكان كلما تذكرها بكى بحزن وتأثر، وكأنها لم تمت إلا فى تلك اللحظة.
 بين يحيى وشاكر
كان «يحيى حقي» متواضعًا أشد ما يكون التواضع، عطوفًا على أصدقائه مخلصًا فى صداقته لهم، وقد ربطته صداقات وطيدة بعدد كبير من أعلام عصره، من أجيال مختلفة واتجاهات متعددة، ولكن كان الحب دائمًا هو الرباط الذى يجمع بينهم، والأدب هو الصلة التى تضمهم، ومن هؤلاء: محمود محمد شاكر، وعثمان عسل، ومحمد عصمت، وفؤاد دوارة، ومصطفى ماهر، وعطية أبو النجا، ونعيم عطية، وسامى فريد، وسمير وهبي، وأحمد تيمور وغيرهم.
وكان شاكر من أكثرهم قربًا منه فقد عرفه منذ عام 1939م واستمرت صداقتهما لأكثر من (53) عامًا.
فقد كان لشاكر أكبر الأثر فى الارتقاء بلغة يحيى حقى، وتحويله من رجل تتعثر يده لم يتعمق علمه بالعربية إلى ذلك الأديب المبدع الذى تشى كتاباته بأسرار العربية فى تمكن واقتدار.
 ريادة فن القصة القصيرة
وبالرغم من قلة الأعمال القصصية ليحيى حقى فإنه يعد بحق هو الرائد الأول لفن القصة القصيرة، كما أثرى فن اللوحة الأدبية فى مقالاته الأدبية العديدة التى لا تقل فنًا وبراعة عن القصة.
وقد صدرت الأعمال الكاملة ليحيى حقى فى (28) مجلدًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقام بإعدادها ومراجعتها الناقد فؤاد دوارة.
وقد ترجمت بعض قصصه إلى الفرنسية، فترجم «شارل فيال» قصة «قنديل أم هاشم»، وترجم «سيد عطية أبو النجا» قصة «البوسطجى»، وقدمت تلك القصة الأخيرة فى السينما وفازت بعدد كبير من الجوائز.
ومن أشهر أعمال «يحيى حقى»: مجموعته القصصية «دماء وطين»، و«قنديل أم هاشم»، و«يا ليل يا عين»، و«أم العواجز»، و«خليها على الله»، و»عطر الأحباب»، و«تعالى معى إلى الكونسير»، و«كناسة الدكان».
   يحيى حقى.. نبض للحياة
كان يحيى حقى أكثر أدباء جيله تأثيرًا على الأجيال اللاحقة من الكتاب، فقد كرَّس حياته لإرساء القيم الأدبية والفكرية والأخلاقية، وظل يرسى تلك المبادئ والقيم ويبثها فى تلاميذه من خلال إبداعاته حتى آخر لحظة فى حياته.
ولقد كان يحيى حقى ذاكرة حية لواقع الحياة المصرية، وقد سجلت كتاباته نبض الحياة المصرية، وعكست أنماط الحياة والتقاليد الاجتماعية فى صعيد مصر وريفها، كما حرص على نقد الواقع الاجتماعى للأمة.
واستطاع كذلك أن يرسى أسس الدرس النقدى منذ وقت مبكر، فكان كتابه «فجر القصة المصرية» - على صغر حجمه - تأصيلاً مبكرًا للأسس الفنية للنقد الأدبى لفن القصة.
وكان للإبداع الأدبى لدى يحيى حقى قيمة فنية وفكرية وجمالية، فقد كانت لديه قدرة عجيبة على استشراف آفاق المستقبل الأدبى، كما كان متمكنًا من الأداة اللغوية، عارفًا بتراث أمته وتاريخها، وهو ما أضفى على أدبه سحرًا فريدًا.
فهو يجمع بين جمال الصياغة وروعة الفكرة والإحساس المرهف، مع الاهتمام بالقيم الدينية والأخلاق السامية وإعلاء المثل العليا.
وقد خرجت كتاباته فى لغة قصصية متميزة فى إيقاعها وتراكيبها، متوهجة بالمشاعر والأحاسيس، متدفقة بالحركة، نابضة بالحياة، ذات قدرة فائقة على الإيحاء والتجسيد، والتأثير فى المتلقى.
وتأثير يحيى حقى واضح على القصة العربية ليس فقط فى مصر وحدها، وإنما فى الأدب العربى عامة، ودوره فى إرساء تقاليد هذا الفن الأدبى وانضاجه مهم وكبير بالرغم من قلة أعماله، وذلك لا يعنى ضيق عالمه أو محدوديته، وإنما على العكس فقد كان يحيى حقى مدرسة لكثير من الأدباء، وعالمًا رحبًا حلق فيه العديد من الأدباء ينهلون من فنه وأدبه.
وتوفى يحيى حقى فى عام 1992م عن عمر بلغ سبعًا وثمانين سنة، بعد رحلة معاناة مع المرض، ولكنه كان دائمًا ثابت الجنان راضيًا مستسلمًا لقضاء الله.