الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

السياسة الأمريكية ونظرية المؤامرة

السياسة الأمريكية ونظرية المؤامرة
السياسة الأمريكية ونظرية المؤامرة




د. محمد محيى الدين  يكتب

بعد نجاح الولايات المتحدة فى تحقيق النصر للحلفاء فى الحرب العالمية الثانية والتى حسمتها بإلقاء قنبلتين ذريتين دمرتا مدينتين فى اليابان، وغروب شمس كل من بريطانيا وفرنسا وخروجهما إلى حد كبير من المنافسة، نصبت الولايات المتحدة نفسها زعيمة للعالم الحر ووريثة للقوى العظمى السابقة وقررت الخروج من عزلتها لتكون طرفا فاعلا ومؤثرا فى العلاقات الدولية والتخلى عن المثاليات التى كانت تعتمد عليها سياستها الخارجية فى عهود رؤسائها السابقين الذين رفعوا شعارات الديمقراطية والحرية ومن ثم التحول إلى سياسات براجماتية ولا بأس من استخدام الشعارات السابقة فى الظاهر لتبرير تدخلها فى شئون الدول الأخرى.
وبعد هذا التحول فقد أصبحت السياسات الخارجية الأمريكية تدار بعقلية رجل الأعمال ومن ثم فإنها تهدف إلى تحقيق أكبر منافع اقتصادية تزيد من قوتها ونموها الاقتصادى مستخدمة فى ذلك كل وسائل الترغيب والتسويق والترهيب بداية من استخدام القوى الناعمة الثقافية لتمهيد الطريق إلى قبول الآخرين لتدخلها لاستغلال مواردهم وتبنى ما تقول أو تنادى به حتى ولو كان فى معظم الأحيان يتناقض مع مصالحهم ولا مانع من استخدام كل القوى الخشنة العسكرية إذا لزم الأمر بغطاء من الأمم المتحدة وتحالفات دولية وشعارات براقة نعلم ويعلم الآخرون أنها كاذبة، والأمثلة كثيرة بدءا من حرب فيتنام وحتى غزو العراق.
 وكأى رجل أعمال أيضا يرى أنه قد حقق ثروته من التجارة أو الصناعة فلا بأس من الحصول على السلطة، «والذى نعرفه فى مصر بتزاوج المال والسلطة» وفى الحالة الأمريكية فإن تحقيق الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب أصبحت هدفا مهما فى حد ذاته ولا مانع من تغطية تلك الرغبة بشعارات مثل نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان والليبرالية وأشياء أخرى، والتناقض واضح لكل ذى عينين ولكنه الإعلام والقوة الناعمة الأمريكية ينجحان فى قلب الحقائق.
ولنا أن نعترف بأن السياسة الأمريكية زاوجت بين الدراسات والأبحاث العلمية التى تنتهجها معاهد البحوث والجامعات مع المعلومات التى يتوصل إليها جهاز استخبارات قوى للتعرف على نقاط القوة والضعف فى الآخرين، ومن ثم رسمت الخطط للنفاذ إليهم منها، بدءا من تطبيق نظرية الفراغ التى تبنتها الولايات المتحدة فى بداية الخمسينيات من القرن العشرين، والتى تقول بأن الشرق الأوسط يعانى من الفراغ بعد تحرره من الاستعمار البريطانى والفرنسى وأنها المؤهلة لملئه، وبدأت بالفعل فى التخطيط وتنفيذ تلك النظرية وبانتهاء الحرب الباردة لصالحها نشر صامويل هنتنجتون أحد منظريها السياسيين فى منتصف التسعينيات نظريته حول «صدام الحضارات» التى تقول بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها الأيديولوجية بل ستكون الاختلافات الثقافية والعرقية والطائفية المحرك الرئيسى للنزاعات بين البشر فى السنين التالية وتنبأ فيها أن الصراع سيكون فى بدايته بين الحضارة الغربية والإسلام كمحرك أساسى للحضارة الإسلامية ومن ثم فإن المطلوب هو الانتصار عليه، وبعدها تجىء الحضارة الآسيوية لتستمر هيمنة الحضارة الغربية.
 ولعل ما يحدث الآن فى المنطقة العربية هو تنفيذ للمراحل الأولى لتلك النظرية، والتى بدأت فى البوسنة والهرسك والبلقان وبعض مناطق الاتحاد السوفيتى بعد تفككه فى نهاية التسعينيات ولضمان حسم ذلك الصراع فلا بأس من تجنيد الدول الغربية التى تتلاقى مع المصالح الأمريكية ويتشابهان فى الخلفية الثقافية ولا بأس من تجنيد بعض مثقفى مناطق كثيرة من العالم وصانعى القرار فيها خاصة العالم العربى سواء عن قصد أو حسن نية منهم، لمساعدتها فى تنفيذ مخططاتها، أما نحن فقد كنا ـ وما زلنا إلى حد بعيد ـ ضحايا لاستنزاف أمريكى لمواردنا الطبيعية وخيراتنا وأصبحنا مناطق مفتوحة لممارسات إمبريالية أمريكية ووقودا لحروب جديدة تفرق جمعنا وتشرذم بلادنا.
وحتى نخرج من لعب دور الضحية الذى طال أمده وتوالت خسائرنا بسببه فإن الوقت قد حان لنتعلم قواعد اللعبة من خلال فهم متعمق للسياسة الخارجية الأمريكية تقوم به مراكز بحثية متخصصة ومن خلال الدراسات والنظريات المنشورة والمعلنة والتى ما زلنا لا نأخذها على محمل الجد ونكتفى برفضها دون التخطيط لمواجهتها أو الهجوم عليها وشجبها باعتبارها مؤامرات.