الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

فتنة اللحظات الأخيرة

فتنة اللحظات الأخيرة
فتنة اللحظات الأخيرة




د.على الشامى  يكتب:

أبى أريد أن أتعرف عليك، بهذه الجملة يأخذك الكاتب الكبير الأستاذ «يوسف فاخورى» ويطوف بك فى عوالم الدهشة، يصعد بك ويهبط كأنك فى أرجوحة فى مدينة ملاهى كبيرة يملك وحده مفاتيحها وأسرارها، يعرف وحده مواطن الدهشة والانبهار بها فقط هو مَن يستطيع أن يجول بك جاعلا إياك دائم الاندهاش أبدى الترقب تلهث وراء الكلمات لعلك تصل فلا تصل ولا تكل من السعى، يظل اشياقك الأبدى يسير بك إلى شاطئ من السهل الممتنع عبر لغة مذهلة حروفها الظاهرة فضلا عن بواطنِها الصوفية، فلا أنت تستريح وتريح قلبك المجهد من فرط الركض فى تخوم المعانى كزاهد يسعى نحو الحقيقة وتدريجيا تصير اللذة التى تقتنصها من الكلمات هى الهدف الأسمى ويصير السعى بين كلمات فاخورى نفسه غاية لا تدانيها غاية.
بهذه الرغبة فى البحث يبدأ الأستاذ يوسف فاخورى روايته الاستثنائية «فتنة اللحظات الأخيرة» وعبر اللغة المذهلة والتراكيب المدهشة تنساب معه فى رحلة البحث عن الأب تشاركه البحث من قلب الماء الهادر فى طوفان نوح والموت يحصد الحياة والحياة تقاوم الموت، تشاركه غضبه وشفقته عبر علاقة الأب القوى والابن الضعيف أو الاب المستكين والابن الغاضب تثور وتشفق، تغضب وتحن، وعبر تفاصيل مذهلة فى محاولة لاستكشاف الأب الكائن فى داخلنا والابن الكائن فى صدور الآباء تفاصيل تتدفق بحيوية تدفق الماء الذى يحيى الأنفس ويخلق النبت حرارة التفاصيل وبرودة الخوف من الفقد تتصارعان.
يقول فاخورى: «كان بوسعى دوما أن أتخيل موت أبى قبل أن يحدث، ليس عن رغبة، لكن ربما لأن إنسانًا ينشأ على أن طقوس الموت أحد شروط وجوده، شىء يجعل الظلال تخايله، حتى فى أقصى متاهات فرحه». ويقول أيضًا: «بين موتك وحياتى ذبذبة مجهولة المصدر، هى ليست روحك ولا نحيبى، لأن دمعى لم يسقط بعد، الخوف لا ينتهى ولا يتبدد كمن استراح على عرشه وتواطأ على لثم قدمه، حاولت أن ألتمس روحك قبل أن تغيب، شىء ما كان يحلق ويعاود حاولت أن اقتنصه لكنه كان يهرب، ينتابنى دومًا هاجس عبثى أنى خلقت قبلك، وكانت روحى تحلق ولم يقبضها جسد».
رواية «فاخورى» الاستثنائية «فتنة اللحظات الأخيرة» لا تمثل عزفا منفردا عن إبداعه الأدبى والانسانى، فالرجل نفسه يكاد يكون على المستوى الإنسانى قصيدة عذبة أما الإنتاج الأدبى فعلى الرغم من قلة الكم إلا أننا نجد كيفا يستحق الوقوف والتأمل طويلا عبر دراسات وأعمال نقدية نعانى فى واقعنا العربى من نُدرتها، ولا أريد أن أقول عدمها حتى لا أبدو متشائمًا.
استطاع «فاخورى» عبر ثلاث مجموعات قصصية (كانت تعترف لى فرد حمام حكايات الغريب) ورواية «فتنة اللحظات الأخيرة» أن يؤسس للغةٍ خاصة، لغة سامقة تبحث فى الموجودات وتنبش فى الأرض عن سر أسرار الوجود وتراقب السماء للوصول للحقيقة، تخرج إلينا عبر الكلمات بوعى شفيف عن الصراع واللاصراع بين السماء والأرض تحمل الحقيقة المطلقة، إلا أنها تراوغك حتى تذوب نضجًا ثم تلقيها فى قلبك، فتتكشف الأسرار، السر تلو الآخر، كما فعل الخضر مع موسى.
لا خوف إذن على الكتابة الأدبية طالما أن «فاخورى» ينوى الكتابة، ولا خوف على الأدب العربى طالما أن كتاباته كتبت بالعربية، وعبر سطور الكتابة المدهشة وعبر عالم ثرى يطل علينا فى ختام روايته قائلا: أبى هل تعرفت عليك؟
وكأنه يلقى إلينا بالسؤال، فلا تدرى أيلقيه للأب القوى أم الأب المستكين داخلك ولا تعلم أيلقيه الابن المنكسر أم الابن المتجبر، فقط تتلقى السؤال ثم تذهب معه ثانية عبر رحلة جديدة لاكتشاف عوالمه الساحرة الأخاذة وطنين السؤال الأوديبى الأبدى يتردد فى داخلك» أبى هل تعرفت عليك؟».