الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع: الوهم

واحة الإبداع: الوهم
واحة الإبداع: الوهم




كتبتها- مارينا شهدى


يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 055 كلمة» على الإيميل التالى:    
[email protected]

يجلس أحمد على الفراش و يضم ذراعيه بعضهما على بعض ممسكا بهما أشد مسكة و كأنه يريد أن يمنع جسده من الانفلات. يحدق فى وجه أخيه بشدة يريد أن يقتل ضميره بنظرات لوم وعتاب قاسية، بينما يقف الأخ فى مقابله بعيدا عن الفراش بقليل, ممسكا بعقار هيروين، ويبادل أخيه نفس نظرات اللوم والعتاب لكن يزيد عليها حزن وشفقة على هذا الأخ الصغير التعس، وعلى الحالة الرديئة التي يعيشها والتى أودت به لتعاطى المخدرات.
أحمد: أعطنى الحقنة!
مصطفى (بشدة وحزم ممزوجان بالعطف والشفقة عليه): لا تطلب منى هذا فلن أعطيك السم بيدى!
يصر أحمد على طلبه ويقول لأخيه: أنت تكرهني مثل أبى، فجميعكم هكذا تبغضوننى..
مصطفى: وماذا فعل لك أبى حتى تقول هذا؟
أحمد: ألا تعلم أنه لا ينفث عن ضربي ضربا مبرحا ولا يتوقف عن ذلك إلا عندما أكاد أفقد وعيي . أتضور جوعا وعطشا فى كل ليلة يهم بى أبى فيها ليضربنى، لكن آلامى تقف حائلا دون أن أنطق بذلك، فأظل مستلقيا على الأرض كما يتركنى أبى بعد أن يشبع من ضربي و لا يفيقنى إلا أذان الفجر، فأدعو الله أن يقوى جسدي لأقوم و أصلى، و يستجيب الله لى.
استمع مصطفى إليه بإنصات شديد وقال له باندهاش: تتعاطى المخدرات وتصلى فى نفس الوقت انه قمة التناقض فى معاملة الله! تطيعه و تعصيه فى أن واحد وعجبى!
أحمد: هذا العقار ومعه الترامادول هما اللذان يساعدنني على الحركة والمذاكرة.
مصطفى: وماذا عن المسكنات الطبية لماذا لا تأخذها؟
أحمد: المسكنات الطبية يزول مفعولها سريعا بعكس الترامادول والعقارات المخدرة.
مصطفى: أنت تعيش فى الوهم يا أحمد فهذه العقارات لن تنفعك بشىء فى المستقبل فسيأتى عليك يوم تجد نفسك غير قادر على الحركة أو المذاكرة بدونها ولن تستطيع التخلص منها إلا بصعوبة..
وفجأة يدخل الأب وقد استمع لجزء كبير من الحديث . وقف أحمد ومصطفى فى ذهول يترقبان ما سيقدم عليه الأب من تصرف حيال ما سمعه. يقترب الأب ناحية أحمد ويزجره بشدة قائلا: تتعاطى مخدرات يا كلب! سوف أعيد تربيتك من أول وجديد. وصفع أحمد على وجهه صفعة جعلت جسده يهتز ومصطفى يقف بينهما محاولا أبعاد الأب. اتجه أحمد مسرعا إلى المطبخ و تناول سكين كبير وهدد بأن يقتل نفسه قال لأبيه: سأقتل نفسى أن اقتربت إلى فجسدى لن يتحمل أى ضربة منك بعد الآن. يحاول الأب أن يقترب من ابنه لتهدئته لكن يبادر الابن بطعن نفسه فى بطنه ويقع على الأرض غارقا فى بحر دمائه. يقف مصطفى مذهولا وكأنما قد شل لسانه عن الحديث فلم ينطق بكلمة واحدة. أما الأم فلا تفعل شىء سوى الصراخ بينما أسرع الأب للاتصال بالإسعاف لنجدة الصبي. وبعد مرور ساعة وصلوا إلى المستشفى ودخل أحمد غرفة العمليات وكان الجميع ينتظرون فى حجرة الاستقبال. يجلس الأب متوترة أعصابه ويتمتم قائلا: أنا السبب يا أبنى. أنا الذى فعلت بك هذا. أنا الذى أوصلتك إلى هذه الحالة .سامحنى يا أبنى فقسوتى عليك هى التى جعلتك تسير فى هذا الطريق. وبعد مرور عدة ساعات على هذا الحال يخرج الطبيب من غرفة العمليات فيتلقاه الأب بلهفة ويسأله عن حال ابنه .فيرد الطبيب: الحالة ليست مستقرة سنحجزه فى الإنعاش أدعو له. سمعت الأم هذا الكلام فسقطت مغشيا عليها وفقدت وعيها ونقلها مصطفى وأخته هنا إلى ساحة المستشفى محاولان إفاقتها. وفى ساعات معدودة سرى الخبر بين أفراد العائلة و حضر الجميع من كل حدب وصوب لمواساة الأب والاطمئنان على حالة أحمد. وقف الرجال بجوار الحاج محمود أمام غرفة الإنعاش بعد أن أدوا صلاة العشاء جماعة يحاول البعض الاستفهام منه عما حدث بينما يحاول آخرون مواساته. أما النساء فقد تجمعن فى ساحة المستشفى حول الحاجة علية بعد أن أفاقت واستردت وعيها و يحاولن هن أيضا أن يواسينها وبعضهن يسألن عما حدث أما هى فقد أعياها البكاء وأعجزها عن الحديث فكان جل ما يصدر عنها عبارة عن شهقات متتالية من أثر البكاء والجميع حولها يحاول تهدءتها لكن باءت محاولاتهم بالفشل. وبعد فترة قرابة النصف ساعة خرج الطبيب من غرفة الإنعاش فتلقاه الأب بلهفة وسأله عن حالة الولد .فأشار إليه الطبيب أن يتبعه إلى المكتب. دخل الحاج محمود مكتب الطبيب وجلس على كرسي بجوار المكتب وأمامه باقة من الزهور. بدأ الطبيب بالحديث وأخبر الوالد بأن الأمر فى غاية الخطورة فقد اضطروا لإجراء ثلاثة عمليات جراحية للولد واحدة لاستئصال المرارة والثانية لاستئصال الزائدة الدودية، والثالثة خاصة بالطعنة التى أصيب بها فى بطنه. وما زاد الأمر خطورة أن الولد جسده هزيل جدا ومريض بالسكر مما يجعل الأمل فى شفائه أمرا صعبا. وقع هذا الكلام على الأب وقع الصاعقة، فابنه كان مريضا بالمرارة والزائدة والسكر دون علمه، أكان مهملا فى ابنه لهذه الدرجة؟
أخبرهم الطبيب أنه لا فائدة من بقائهم فى المستشفى فهذا لن ينفع بشىء.عادوا جميعاً إلى منازلهم. دخل الحاج محمود حجرة ابنه، يسير بخطى متهادية نحو الفراش ليجد كشكول مذكرات الفتى. جلس على الفراش وأخذ يقلب فى صفحات الكشكول حتى وقعت عينيه على بعض المقتطفات كتبها أحمد ليوضح قسوة أبيه وإهماله قبل الحادث بيوم واحد. وكان فى ذلك اليوم قد حدثت مشاحنة بين أحمد والحاج محمود بسبب تأخر عن ميعاد المدرسة، وقد اتهمه أبوه بأنه كان يتسكع مع رفقاء السوء، وأحمد يحاول أن يقنعه بأنه كان يجوب الشوارع بحثا عن صيدلية مفتوحة لأخذ جرعة الأنسولين. ولم يصدقه الحاج محمود وظن أن الولد يدعى المرض حتى يفلت من العقاب. واستطاع مصطفى أن يفصل بينهما ومر اليوم بسلام. أما المقتطفات فهى «يوم حصولي على الشهادة الإعدادية كان يوما مشهوداً بالنسبة لى. فقد حصلت على المركز الأول على مستوى الإدارة التعليمية وذهبت إلى البيت فرحا بهذا الخبر السعيد، وعندما وصلت إلى المنزل وجدت أبى موجود ف ظننت انه مكث بالبيت حتى يستقبلني ويحتفل بى. لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن فما أن أعطيت أبى الشهادة إلا ونظر إليها شذرا وألقاها فى وجهى ووقعت على الأرض. وكانت حسرتى لاذعة فها هي ثمرة مجهودي وعرقى فى الإعدادية يلقى على الأرض أمام عيني .... «ووقعت عينيه على جزء آخر من المذكرات مكتوب فيها» لا أذكر أبدا أن أبى هنأني يوماً بعيد ميلادى أو بنجاح حققته أو شىء صالح قمت به بل إنه لا يرى فى إلا الأخطاء التي ارتكبها ..... وفى جزء آخر يكتب أحمد عن عدم مبالاة أبيه بتنشئته الدينية ويقول «فى يوم كنا فى المسجد وكان عمرى وقتها أربع سنوات و كنا نصلى العشاء جماعة كل يوم الا انه فى يوم لاحظ أبى أنى أخطئ فب بعض طقوس الصلاة وضايقته تعليقات الناس على أخطائى. وعندما رجعنا إلى المنزل أخذ يتحدث إلى وعندما قلت له أنى لا أعرف كيف أصلى ضربنى ضربا مبرحا واتهمنى أنى ألصقت به العار أمام الناس ومن يومها وأنا كلما نويت أن أصلي أتذكر ما كان يفعله بى أبى وأتعب كثيرا ....»
لم ينم أحد فى تلك الليلة ف مصطفى ظل قابعا فى غرفته يتلو القرآن ويصلى بتضرعات ودموع إلى الله ليشفى أخاه و ينجيه من هذه الضيقة، والأب قضى ليلته يقرأ فى مذكرات ابنه ويبكى ندما وتحسرا على ما بدر منه تجاه ابنه فكانت كل كلمة يقرأها بمثابة خنجر يطعنه فى قلبه الذى يعتصر آلما لما وصل إليه أبنه بسببه، أما الأم فقضت ليلتها صامتة لا تحادث أحدا ولا يتحدث إليها أحد. وفى الصباح ذهب الأب والأم والأخوة إلى المستشفى فتلقاهم الطبيب ووجه حديثه إلى الحاج محمود «البقية فى حياتك، ابنك مات».