الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مهنة تقتل فى صمت «روزاليوسف» فى «مكامير الفحم»

مهنة تقتل فى صمت «روزاليوسف» فى «مكامير الفحم»
مهنة تقتل فى صمت «روزاليوسف» فى «مكامير الفحم»




تحقيق: محمود ضاحي

على مسافة 55 كيلو عن مدينة المنيا، وأكثر من 52 كيلو غربا عن مركز سمالوط.
تقع قرية «العور» البعيدة عن أعين المسئولين، تحيطها المصارف التى تنبعث منها الروائح الكريهة الناجمة عن مياه الصرف الصحى.
وتمثل الكارثة الأكبر فيها وجود 4 «مكامير فحم» على مساحة 7 أفدنة.
أخشاب متراصة على مساحات شاسعة من الأراضى الزراعية وسط حقول القمح، وعلى بُعد أمتار تظهر وجوه كساها التراب اﻷسود، فأظهرت تجاعيدها هموم أصحابها.. عمّال فى ثياب ممزقة طغى الرماد على ألوانها، يكدحون ليل نهار وسط فضاء معتم يضم مكامير فحم. «روز اليوسف» قضت يومًا كاملًا فى إحدى تلك المكامير فى مهنة عامل يومية بداخلها؛ لتصب عرق أبناء هذه المهنة فى كلمات عبر أوراق الجريدة اليومية لترسل استغاثتهم كما عايشتها.


بدأت الرحلة باستخدام وسيلة للدخول إلى هذا العالم المتفحِّم، المقيد بسلاسل حديد بباب ذى ضلفتين كسجن ممنوع الاقتراب منه، خاصة أن صاحب مكمورة الفحم (العم لبيب)، يرفض الحديث مع الإعلام، ويرسل تحذيراته للعمال من الحديث معهم أيضًا.
«طالب فى كلية العلوم أجرى بحثًًا عن الفحم، وأريد المساعدة حتى أنجح، وسأعمل معكم يومًا كاملًا منذ الصباح ولن أريد أى مقابل بل معايشة المهنة، وكيس فحم لإجراء تجاربى عليه فى المنزل»، هذه كانت الحيلة الوحيدة لنا كى نتمكن من دخول المكمورة، ورصد معاناة العمال وما يدور بداخلها.
وبعد موافقة العم «لبيب» على الطلب رغم تعجبه الشديد وقلقه الحذر، بدأنا العمل بحمل الخشب فوق أكتافنا، كانت البداية بتوجيه عدد من الأسئلة عن أهمية الفحم وأوقات استخراجه، وذلك بعد دقائق استلقينا فيها على قطع الأخشاب للاستراحة، لنلتقط أنفاسنا التى ضاعت وسط الغبار، وكعادة العمال، أشعلت النيران فى بعض قطع الخشب لعمل «الشاي» فازداد الجو دخانَا وتلوثا، وسط زفير الأنفاس المتراصة حولها، ثم احتسينا الشاى فى أكواب صدئة مفحمة، ودار الحديث بيننا للتعارف، وسرد شكاوى المهنة تخللته الضحكات على أفواه، تناست ما يخبئه المستقبل من أمراض تسببها تلك المهنة.
انتهت الاستراحة القصيرة، وعدنا للعمل، واستمرنا فى حمل الأخشاب، حيث توضع فى حفرة فى باطن الأرض داخل الغرفة المخصصة للمكمورة بعمق يزيد على المتر عن سطح الأرض، ثم وضعنا الخشب بطريقة مرصوصة فى شكل مثلث مع ترك فتحات هوائية كل 80 سم فى اتجاه الهواء، لتصل مساحة أضلع هذا المثلث 8 أمتار لكل جانب وذلك حسب الكمية والحاجة.
بعد رص الخشب وسط العمال، حملنا قش الأرز ثم وضعناه فوقه، يعلوه التراب الأسود من بقايا الفحم المحترق سابقًا، ثم فتحنا خراطيم المياه لتبلل التراب، بعدها أشعلنا النار فى المكمورة بدءاَ بأول الفتحات المرصوصة فى اتجاه الهواء، حيث تستغرق الدورة وقتا من 5 إلى 10 أيام حتى يتحول الخشب إلى كتل من الفحم.
وخلال مدة التفحم تستخدم المياه من الخارج للتقليل من حدة الحرارة التى تنتج عن احتراق الخشب، وفى المرحلة النهائية يتم إخماد النار به، إذ يتحول الهواء إلى سحابة من الدخان الأسود الكثيف.
وفى حديثنا مع عم إسحق – أحد العمال - أثناء العمل، قال إنه يعمل فى هذه المهنة منذ 15 عاماً، ذاق فيها ويلات آلام المرض، مضيفًا أن أجرة العامل فى اليوم الواحد 50 جنيها، ويستغرق وقت العمل 12 ساعة عمل متواصلة من 7 صباحًا وحتى 7 مساءً فى أماكن ينعدم فيها الهواء.
وقال إن مادة الكبريت التى ترش فوق أشجار العنب قبل قطعها تجعل العنب أكثر قابلية للاحتراق، لأنها تثبت فى الشجرة لفترة طويلة وتساعد على الاشتعال، أما أشجار الكافور فتتحول إلى فحم بعد 12 يومًا من بدء حرقها، مشيرًا إلى أن مساحة المكمورة 3 أفدنة على أرض زراعية تم تجريفها فأصبحت غير قابلة للزراعة مرة أخرى.
وأضاف أنه بناء على كمية المياه المستخدمة فى طفى الفحم يحدد ثقل الفحم أو خفته، فكلما زادت الكمية ثقل وزن الفحم وكلما نقص الماء قل وزنه، بحيث يكون على جوانب الحفرة مواسير للتغذية الهوائية، حتى لا تنطفئ النيران وتظل مشتعلة لمدة من 10 إلى 15 يوماً.
وأشار إلى أن هناك مروراً من قبل موظفى الوحدة المحلية على المكامير، حيث إن أغلبها غير مرخص ويتواجد وسط الأراضى الزراعية أو الكتل السكنية بالقرى، واشتكى من العمل فى المهنة، مطالبًا بمساعدته للعمل فى أى مهنة أخرى، وأن مشكلة الدخان من أصعب الأزمات، وعملية تقطيع الخشب أصابت أكثر من 10 من العمال بجروح قطعية، فلا يوجد تأمينات عليهم ولا أى تعويضات لهم.
ويضيف محمد شعبان - 31 سنة حاصل على دبلوم تجارة - «أكل العيش عايز كده، كله عذاب» مبررًا استمراره فى العمل فى هذه المهنة بأنه لم يجد فرصة عمل سوى قطع الأخشاب لمكامير الفحم، وأنه يعمل بها منذ 8 سنوات، ما سبب له التهابًا حادًا فى الرئة وحساسية بالصدر، ناتجة عن عوادم مكامير الفحم بالقرية، مشيرًا إلى أن الكثير من أهالى القرية والقرى المجاورة يعانون من حساسية الصدر وأمراض صدرية أخرى، لذات السبب، واستطرد: تصل رائحة الدخان إلى الطريق الزراعي، وقد يشعر المارة بنوبات من السعال نتيجة الرائحة المنبعثة من مكامير الفحم التى تملأ القرية.
أما ميلاد سعيد - 27 عامًا - فأوضح أنه غير مؤمن عليه فى المكمورة، فهو مجرد عامل باليومية. مضيفًا «أنقذونا من التراب اللى بيعمى عينينا، والأصعب من كده الأنف والفم والكحة طول اليوم بسبب الدخان»، وأضاف: لمدة يومين مستمرين أنفى به تراب أسود وحلقى أيضًا، وريقى كلها سواد وأبصق سواداً.
وقال: إن أصحاب مكامير الفحم يأمروننا بتعبئته فى جوال كل حسب نوعه وخامته، وتنتج المكمورة الواحدة ما يقرب من 200 إلى 250 جوالاً فيه أنواع تصدر خارج مصر وزن الواحد منه لا يقل عن 20 كيلو، ونوه إلى أن أفضل مواسم الفحم والتى يكثر الطلب على عمال الفحم فيها تكون فى الفترة بين شهرى أغسطس وديسمبر من كل عام.
أما ممدوح سرى - صاحب مكمورة فحم - فقال إنه فى المراحل الأولى تبدأ عملية تصنيع الفحم بتقطيع الأشجار بمنشار كهربائى أو يدوى، ويتم فصل الأنواع المختلفة من الأشجار التى يتفاوت سعرها بحسب نوعها، فأشجار الفاكهة هى الأعلى سعرًا ويتم تصديرها للخارج، ويختلف شجر الكافور عن شجر العنب فى سعره وبيعه وهما المستخدمان محليا ويتميزان بانخفاض السعر.
وأضاف أنه بعد مرحلة التقطيع يُرص الخشب لمدة 10 شهور فى الشمس حتى يجف ويكون مهيئا للتصنيع، موضحًا أن هناك عاملاً يرفع الأشجار، وثانياً يقطعها بواسطة منشار حديد، وثالث يحمله على كتفيه ويعاونه زميله فى رصه بشكل متواز، مضيفًا أن صناعة الفحم أكثر خطورة، وأكد أن مكمورة الفحم الذى يمتلكها مرخصة، وأغلب العمال مؤمن عليهم، أغلبهم يحصلون على يومياتهم بعد انتهاء عملهم مباشرة.
الدكتور محمد سعد - مدير إدارة البيئة بمحافظة المنيا - قال: أغلب المكامير بالمحافظة غير مرخصة، وتجرى حملات تفتيش عليها، وحصر عددها، وأن العاملين بها ليس لهم ضمانات ويعملون باليومية، ولا يوجد تأمين عليهم، ومن المفترض لأى صاحب مكمورة قبل إنشائها التقدم بدراسة جدوى شاملة تعرض على إدارة البيئة بالمحافظة، وبناء عليها تتم المعاينة طبقا للمواصفات ثم إبداء الموافقة أو الرفض، وفى حال وجود مخالفات، أو عدم الترخيص يتم تحرير محضر بقسم الشرطة، واشترط فى حال وجود مكمورة فحم أن تكون بعيدة عن الكتلة السكنية والأرض الزراعية.