الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع: زهور تملأ أرض الغابة

واحة الإبداع: زهور تملأ أرض الغابة
واحة الإبداع: زهور تملأ أرض الغابة




كتبها: أحمد محمد جلبي

سيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 055 كلمة» على الإيميل التالى:    
[email protected]

ثم جاء دور طبيب التحاليل ليأخذ عينات وعينات، منها ومن زوجها، أكثر من اثنى عشر ورقة تحمل نتائج سلبية، قالت له: ترى لماذا حرمنا نعمه الأطفال.. أين نخفى مشاعر الشوق لهم والرغبة فيهم، أنت طبيب أيضا، ألا يوجد من حل. كان صمته أبلغ من الكلام، تعود على الرد بسرعة وبقوة فى عمله وفى الشارع ومع الزملاء، حتى فى غرفة العمليات، كان ذا طبع متوتر منفعل، خلقت منه المادة الخام للعصبية، إلا أنه تريث قبل أن يجيب.. راح يعدد لها فى كلمات متقطعة وبلغة العيون، عدم إمكانية أن يرزقا بأطفال رغم كل العلوم والتقدم والنظريات، وأنه من الوهم حتى التفكير فى الاستنساخ، ثم تركها عند باب المنزل فقد كان كل منهما يفضل البقاء وحيدا، راح هائما فى الطرقات، راح خلال شهور يجتهد أن يصنع فى حياتهما بهجة ما، مشاعر الصدمة على كليهما مسيطرة لا يخفيانها، لا يحاولان، ظلت تطل من العيون وتتحدى النسيان والذوبان، فى خضم مشاكل الحياة الأخرى، وجد ضالته فى فكرة مجنونة، بل عبقرية، ظلت تردد وهو يسير بسرعة شديدة: أرض فى الصحراء.. تشترى أرض عند الكيلو 101، ماذا يعنى هذا بالله عليك، ألا تعرف أن المياه لا تصل هناك، الجرائد مليئة بحالات الإفلاس للمزارع ومشاكل لا حصر لها ؟!! لم يكن يردد إلا عبارة: «ستعجبك»، بطل أكد لى أنها ممتازة وكذلك زوجته وهما يعيشان هناك ثلاثة شهور فى السنة دون مشاكل.. سنفعل مثلهم، ظلت تردد.. أنا لا أقرك على ذلك.
مزروعة بالأشجار على امتداد البصر محاطة بالرمال الصفراء (أخضر فى أصفر)، مياه قليلة لكن الأرض معتنى بها بشكل فائق.. أطلقت صيحة عجب وهى ترى تلالا تطل منها أشجار صغيره فارعة، مدت يديها نحو السماء رفعت يديها مثلهم، قالت: يا رب، ابتهجت قليلا.. سره أن رآها كذلك، تجاوبت مع ما صنع.. أخيرا.. ابتهج.. أطلقت أسماء على كل شجرة اسم لولد أو لبنت، حملت الأشجار خليطا من الأسماء العربية والفرنسية، استغرب أن تتذكر ذلك يوما بعد يوم.. وتعرفه بهم، وتصحح أخطاءه، فى البدء كان يطاوعها فيما تراه، اهتم بما تراه مناسب، اهتما بالرى والنباتات.. معارفها من فلاحات القرية الصغيرة المجاورة التى أنشأتها المزارع الكبيرة لتكون سكنا لعمال الزراعة، مع الوقت انهمك هو كونه طبيبا معروفا ومشهودا له بالكفاءة، انشغلا بشدة، زادت حيويتها فى البيت المكون من ثلاث طوابق وسط الأرض، رآها كفراشة تصعد وتهبط طوال ساعات النهار، لديها ما تقوم به فى الأرض والبيت وعند الجيران، عصبيتها تقلصت و توتره أيضا واستراح من الضغط، يتركها لأيام، يعود للقاهرة لإجراء عمليات، ورغم طول المسافة بين القصر العينى وطريق مصر إسكندرية الصحراوي، كان مسترخيا فلديه مكان يلجأ إليه هربا من الضغوط، لدية بيت يهتم به وأرض لا يريد أن يغيب عنها، لديه طاقة كبيرة خلاقة ومجال لإفراغ ما فيه بها.
قالت له وصوتها منفعل: سلوى مريضة، هب معها فقادته إلى تل صغير قريب من البيت تقف فيه شجرة مشمش وحيدة فى المشتل الذى أطلقت عليه اسم (ريجول) ركعت على ركبتها وهى تريه أوراق الشجرة الذابلة.. تحير ماذا يفعل تجاوب مع اهتمامها ومخاوفها أن تفقد الشجرة، ظلا طوال الليل يحيطانها بخيمة من البلاستيك الشفاف استغرقهما العمل تماما، تصورا أشياء عديدة: التربة، الرياح، برد الليل، ربما تلوث الأرض أو المياه، بحثا احتمالات كثيرة واستشارا خبيرا زراعيا وآخر متخصص فى أمراض النبات، لم يفيدا منهما كثيرا.
انتزع نفسه منها وعاد لمرضاه، ظلت الشجرة على حالها، لا تتأخر حالتها لكنها لا تتحسن أيضا، يئست، مع كل اهتمامها بالشجرة لا تتغير.. الشجرة فى حالة ما بين الحياة والموت، قالت لها زوجة أحد المزارعين بعد أن صعب حالها وبانت اللوعة فى أحاديثها ألا تيأس، فلو مات الجذع ما يلبث أن يخرج الجذر نبتا جديدا أشد وأقوى، لم تحتمل فكرة أن تموت الشجرة لتخلفها أخرى، لا، كان يستحثها أن تعود للقاهرة، الشتاء قد جاء ولديها عملها ورسالتها، طلبة فى حاجة إليها، لم يطاوعها قلبها أن تترك «سلوى» دون رعاية، فى النهاية حزمت حقائبها وراحت تضعها فى السيارة لمحت فأسا عند سور الحديقة الخلفية، ذهبت حتى الشجرة وظلت تحفر به حولها فى محيط دائري، حفرت لعمق المتر، قلبت كمية كبيرة من التراب والطين، أخرجت من باطن الأرض صخورا كبيرة وصغيرة تعبت حتى أنها لم تعد قادرة على رفع يدها عن الأرض، نظرت فإذا الصخر من كل لون وحجم، أخرجتهم من أحشاء الأرض، اكتفت وزحفت إلى البيت لتستريح، رحلت للقاهرة فى نفس اليوم.
فى إجازة نصف العام سار بها حتى البيت.. لم يتوقف عنده بل ظل يسير بالسيارة حتى «الريجول»، وخلف التل أوقف السيارة كان مبتسما، رأت الشجرة «سلوى» وقد زادت فروعها طولا، بدت كما لو أنها تمسك الشمس بين فروعها، كانت قد امتلأت بزهور كبيرة وصغيرة فقد بدأت موسم تزهيرها مبكرا، هبت نسمة من الهواء، حملت كمية من نوار زهور الشجرة ونثرتها عليهما، كانت رائحة المشمش فى زهورها قوية ونفاذة، «سلوى» قد أصبحت كبيرة الآن، جذورها تعمقت فى الأرض وفروعها تحمل بشائر ثمار، كلاهما توحد مع الأرض والأشجار، لم يعودا وحيدين كلاهما امتلاء برائحة زهور الشمس.