الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ملامح من التجربة الكورية

ملامح من التجربة الكورية
ملامح من التجربة الكورية




أحمد عبده طرابيك   يكتب:

لا تختلف تجربة كوريا الجنوبية كثيراً عن تجارب دول النمور الآسيوية الأخرى، كما أن ظروفها السياسية ونضالها مع الاستعمار الأجنبى لا تختلف أيضاً عن تجارب الدول العربية، فقد حصلت كوريا على استقلالها عن اليابان بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، ولكن شبه الجزيرة الكورية التى كانت موحدة تعرضت بعد ذلك للتقسيم شمالى ضمن المعسكر السوفيتى، وجنوبى ضمن المعسكر الغربى، والتى سرعان ما اندلعت الحرب بين الشطرين عام 1950 والتى استمرت لثلاث سنوات دمرت البلاد تدميراً شبه تام، وتبدأ كوريا مرحلة البناء وسط هواجس القلق من الجار الشمالى المتربص، حيث تحولت من بلد يعيش على المساعدات إلى قوة اقتصادية عالمية، قائمة على قاعدة صناعية وتقنية متطورة.     
لعب العنصر البشرى الدور الأهم والفاعل فى التجربة الكورية، فتم توجيه جل اهتمام الدولة إلى قطاع التعليم، حيث بدأت بالتعليم المهنى، الذى أدى إلى تطوير إنتاجية العمال وتحسين مهاراتهم لمواكبة التطورات التقنية التى رافقت عمليات التصنيع السريع، ثم التحول إلى التقنيات العالية من خلال مراكز البحوث، سواء المتخصصة التى أنشأتها الدولة، أو مراكز البحوث التابعة للشركات الكبرى، حيث شكلت تلك الشركات الذراع التنفيذية للدولة من خلال تنفيذ خطط التنمية التى تضعها الحكومة، إلى أن تحولت هذه الشركات من الصناعات كثيفة العمال، ذات الإنتاج التقليدى المحدود، إلى الصناعات الثقيلة والإلكترونيات والصناعات المتطورة كثيفة التقنية ورأس المال.
عملت كوريا على تشجيع البحث العلمى فى جميع المجالات، وأنشأت العديد من الهيئات والمؤسسات لإدارة وتنسيق البحوث العلمية، وتم ضخ استثمارات ضخمة من قبل القطاع الخاص والعام لردم الهوة التى كانت تفصل كوريا عن الدول المتقدمة تقنياً، إلى أن انتقلت إلى مصاف الدول المصدرة للتقنية المتطورة، خاصة فى مجالات تقنية المعلومات، والنانو، والتقنية الخضراء.
لم يكن الطريق ممهداً أمام عملية التطور فى كوريا، فقد واجهت عقبات وتحديات كبيرة، بلغت ذروتها عام 1997، خلال الأزمة الاقتصادية والمالية التى عصفت بدول شرق آسيا، حيث تراجعت أرباح الشركات إلى دون الصفر، وارتفعت ديونها وانهار قطاع الصادرات والنظام المالى للدولة، وهربت الاستثمارات الأجنبية إلى الخارج، لكن سرعان ما تجاوزت كوريا تلك الأزمة من خلال حزمة من التشريعات شملت القطاع المالى، واستعادت مرة أخرى مكانتها كبيئة جاذبة للاستثمارات العالمية، ومن ثم متابعة طريق التنمية والتقدم الذى بدأته من قبل.
يشكل الموقع الجغرافى لكوريا أحد أهم تحديات تجربتها فى التنمية، حيث تشهد المنطقة توتراً شبه دائم، وأجواء الحرب مع الشطر الشمالى تخيم دائماً على السياسة العامة للدولة، ومن ثم تنعكس على جميع أفراد الشعب، فمنذ انتهاء الحرب بين الكوريتين الشمالية والجنوبية عام 1953، لم توقع الدولتان اتفاقية سلام بينهما، خاصة فى ظل التصعيد النووى المستمر من الجارة الشمالية، إلى جانب تنازع كوريا الجنوبية السيادة مع اليابان حول جزيرة دوكدو «تاكيشيما»، بالإضافة إلى التوتر بين الصين وتايوان، والنزاع حول جزر بحر الصين الشرقى بين اليابان والصين، وهذا التوتر يشكل هواجس كبيرة لدى صانع القرار السياسى الكورى، ورغم كل ذلك فإن التنمية تظل على قمة أولويات البلاد.
ليست كل التجارب الناجحة فى بعض الدول قابلة للاستنساخ والتطبيق فى دولة أخرى، ولكن يمكن دراسة تلك التجارب ومنها التجربة الكورية والاستفادة منها، خاصة أن أغلب ـ إن لم يكن جميع التجارب الناجحة ـ كان العنصر الفاعل والحيوى فيها هو التعليم، الذى يستهدف العنصر البشرى، باعتباره أهم مورد للتنمية الشاملة فى جميع الدول سواء كانت غنية بالموارد الطبيعية أو فقيرة، فالإنسان هو الذى يستطيع تسخير جميع الموارد الأخرى لخدمة التنمية بفضل ما يتوفر للإنسان من تعليم جيد.
لقد أثبتت التجربة الكورية أن تطوير قدرات الإنسان من خلال التعليم والتدريب واكتساب المهارات العملية، هو من أهم الشروط الواجب توافرها لمواكبة التطورات العالمية، والقدرة على المنافسة مع الآخرين، وتحسين المنتج القادر على المنافسة فى الأسواق العالمية، وسط عالم يتطور بسرعة رهيبة، والدول التى لا تستطيع مسايرة ذلك التطور التقنى الكبير، فإنها ستظل على الهامش، غير قادرة على إيجاد تنمية حقيقية توفر ظروف العيش الكريم لأبنائها.