الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

خفة الدم.. نعمة أم نقمة؟

خفة الدم.. نعمة أم نقمة؟
خفة الدم.. نعمة أم نقمة؟




محمد محيى الدين حسنين  يكتب:


فى أعقاب حرب 1967 شهدت مصر طوفان من النكات السياسية، لم تكن تلك النكات إلا تعبيرا عن الصدمة التى نتجت عن الهزيمة وبدلا من أن نصل إلى تل أبيب وصلت قوات جيش الدفاع الاسرائيلى إلى الضفة الشرقية لقناة السويس واحتلت كامل الضفة الغربية والقدس الفلسطينية بالاضافة إلى هضبة الجولان السورية ولم يتوقف سيل النكات والسخرية إلا بعد أن طلب عبد الناصر ذلك من الشعب الذى استجاب طواعية وبقى الاحساس بالمهانة حتى نهاية حرب الاستنزاف وتحرير سيناء فى اوائل السبعينيات.
وما حدث فى عام 1967 كان مفاجأة لغير المصريين فكيف لشعب تعرض جيشه للهزيمة أن يقابل ذلك بالسخرية ولكنها كانت للمصريين تعبيرا قويا ناتجا عن طبيعة خاصة بهم فقد اعتادوا على استخدام النكتة كسلاح لمواجهة المواجع وشظف العيش والقهر السياسى وتعبيرا عن رأيهم فى الاحداث وكلما زاد الاستبداد كلما انتشرت النكتة السياسية وزادت حرارتها حتى أصبحت جزءا من ادبيات السياسة والثقافة المصرية وأسلوبا لحرية التعبير حارت فى التعامل معها حكومات المحتل الأجنبى بل والحكومات الوطنية حتى الآن.
ومن عبقرية النكتة السياسية ان منشأها غير معروف وما أن وصلت إلى الشارع المصرى فإنها تنتشر بسرعة شديدة قبل وبعد تطور وسائل الاتصال ولا اعتقد ان هناك شعبا آخر يتمتع بخفة دم المصريين وقدرتهم على الاضحاك حتى لو كان ضحكا كالبكاء ويرى علماء النفس ان النكتة تعتبر حائط الصد السيكولوجى والذى كان من اهم عوامل بقاء الشعب المصرى صامدا رغم معاناته من سيطرة المحتل الاجنبى لآلاف السنين قاومهم بها وسخر منهم وخرج الجميع وبقى جسد المجتمع المصرى قويا معافا ولم يسلم من سخرية المصريين حتى قياداته الوطنية أيضا حين تخطئ او تتعدى على حقوقه وأصبحت النكتة بندا أساسيا فى التقارير الأمنية تتعرف القيادات منها على نبض الشارع المصرى.
وإذا كانت النكتة السياسية او الاجتماعية سلاحا للمقاومة والحفاظ على التوازن النفسى فى ظل الضغوط المعيشية ومصاعب الحياة او الاستبداد السياسى، إلا انها سلاحا ذو حدين استفحل تأثيرها السلبى حتى طال أعمدة المجتمع ورموزه من علماء الدين إلى المدرسين فى مراحل التعليم المختلفة والمحامين إلى آخر السلسلة وزاد من خطورتها التطور التكنولوجى فى وسائل التواصل الاجتماعى والإعلام، وشارك الفن بنصيب وافر فى هذا المجال ولا زلنا نتذكر ونشاهد مسرحيات مدرسة المشاغبين والعيال كبرت والأفلام التى تلتها وحذت حذوهما والتى استطاعت ان تقضى على هيبة المدرسة والمدرسين وتحولت مدارسنا بل وجامعاتنا إلى مدارس للمشاغبين فلم يعد المدرس له نفس الاحترام السابق بل وصل الامر إلى تبول المدرس على نفسه فى احد الأفلام الكوميدية الحديثة حين حبسه طلابه فى احدى الغرف وكما فعلت بالمدرس فقد فقد رب الاسرة قدرته على ضبط الامور فى بيته وأدت إلى رفض المخلصين تولى مناصب الدولة او العمل العام وقد يجادل البعض كما يحدث دائما بأن ذلك يمثل ابداعا وحرية فى التعبير والحقيقة غير ذلك تماما فقد أصبح الشباب يقلد المواقف المضحكة فى تلك المسرحيات والأفلام وانتقلت العدوى للإعلام ومما زاد الطين بلة تقديم نماذج البلطجية والعاهرات خفيفى الظل كمادة للترفيه ونسوا أنهم يدمرون بذلك أجيالا كاملة كنا نرجو أن يقودوا حركة التنمية فى البلاد.
خفة الدم فى مصر تحولت إلى نقمة وبعد ان كانت وسيلة للحفاظ على الاستقرار النفسى تحولت إلى عامل اساسى فى زعزعة الثقة بالنفس وتدمير منظوماتنا التنموية وإلى فوضى اجتماعية والأهم إلى إصابة الشباب عماد ومستقبل البلاد فى مقتل وما نقوله هنا ليست دعوة إلى ثقل الدم ولكن إلى اعادة توظيف النكتة والكوميديا للبناء بدلا من الهدم ورحم الله فنانى الكوميديا العظماء كإسماعيل ياسين ونجيب الريحانى وحسن فائق الذين قاوموا تعاطى المخدرات بالمنولوجات ورفعوا من شأن العمال والفلاحين والمدرسين فقد تعلمنا منهم وما زال عطاؤهم مستمرا وما زالت البسمة والضحكة البريئة تملأ بيوتنا.. كفانا هدما ولنتفرغ للبناء.