الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الصرف الصحى مهنة الموت البطىء

الصرف الصحى مهنة الموت البطىء
الصرف الصحى مهنة الموت البطىء




تحقيق وتصوير - محمود ضاحى

لقمة العيش ومتطلبات الحياة دفعتهم للعمل فى تلك المهنة الشاقة التى يتأفف منها الجميع، وهى صيانة بالوعات الصرف الصحى.. مهنة تحتاج للكثير من الصبر وقوة التحمل والمجهود البدنى، حياتهم تتلخص فى كفاح يومى لا ينقطع وحقوق وظيفية وصحية غائبة.

المئات والآلاف منهم يخرجون فى الصباح الباكر متجهين إلى عملهم، لا تمنعهم الأمطار أو أشعة الشمس الحارقة من أداء واجبهم والبحث عن لقمة العيش لأسرهم بشرف، عملهم الروتينى اليومى صيفا وشتاء هو صيانة وتنظيف بالوعات الصرف الصحى من الرواسب التى يمكن أن تتسبب فى انسدادها وبالتالى طفح مياه الصرف، ورغم أهمية وحساسية عملهم، فإن آذانهم لا تسلم من الكلمات المهينة الجارحة خاصة فى المناطق العشوائية، ومع ذلك يحبون عملهم ولا يخجلون منه.. بعضهم لم يكن يتخيل أن يعمل فى هذه المهنة، لكن كما يقولون ما باليد حيلة.
«عبد المنجى» هو بطل المعاناة الأولى، التى نقلتها جريدة «روزاليوسف» من أرض الواقع بالصورة والكلمات والوصف، فهو يسير ببطء مقتادا دراجته القديمة المتهالكة، حاملاً معداته، مستعدا لأى طارئ، بمجرد سماع صوت دراجته نادت سيدة على جارتها التى تقطن فى الطابق الرابع لتجيب نداءها فتخرج من الشرفة، وتهلل من الفرحة بوصول «عبدالمنجى» وزملائه.
ركن «محمد عبدالمنجى» البالغ من العمر 37 عاماً دراجته بجوار أحد العقارات، يتلقى شكاوى المواطنين الذين التفوا حوله بمجرد وصوله بسبب مياه الصرف الصحى التى أغرقت الشوارع والبيوت، فك الأسياخ الحديدية التى يستخدمها فى تسليك البالوعات من قبضتها المربوطة بها، وبقوة وتمالك أعصاب يرفع غطاء «البلاعة».. ثم يلتفت إلى الأسياخ ليتحرك إليها ويشدها من ربطتها، ويبدأ عمله، حيث يغوص السيخ الحديدى داخل البالوعة ومجرى الماء الملوث، وإن لم تنجح أدواته، فإنه ينزل بنفسه إلى القاذورات مستخدماً  يده دون قفاز، أو معطف يقيه الملوثات.. يبتعد عنه الأهالى فى هذه اللحظات خوفًا من أن تطالهم القاذورات بعد أن كانوا يستغيثون به حتى لا تصبح منازلهم عائمة فى فضلاتهم.
ويعلم أن أدواته نجحت فى حل المشكلة عندما يستمع إلى صوت المياه التى تجرى داخل البالوعة دون أن يعرقلها شىء، فيلتقط أنفاسه ويعود لدراجته مرة أخرى منطلقاً إلى بالوعة أخرى، مرتضياً برزق الله قنوعاً بعمله.
يستطيع السباحة فى «المياه القذرة»، وإن كان يعلم أن نسبة تعرضه للأمراض وخطر الموت مرتفعة جداً، بالرغم من أنه لا يتقاضى من وراء ذلك سوى 400 جنيها شهرياً بدوام 7 ساعات كاملة يعملها دون كلل أو ملل على مدار أيام الأسبوع من الثامنة صباحاً حتى الثالثة عصراً، لكن أكثر ما يحزنه المعاملة السيئة التى يجدها من الأهالى والمشادات التى تحدث معهم حال وجود صعوبة فى إنهاء وعدم تسليك المجارى، إذ أكد أن الأمر كله يتوقف على منسوب الماء فى المنطقة المتواجد فيها.
انتهى «عبدالمنجى» من عمله، وتجمع مع زملائه على قارعة الطريق القريب من محل عملهم فى شارع عشرة بمنطقة بولاق الدكرور، ليروى كل منهم حكاياته التى لا تخل من المشاكل.
محمد عزوز - غطاس مجارى -  يبلغ من العمر 40 عاما يقول: «العفريتة» المخصصة للنزول فى البلاعات تتقطع فى أول مهمة عمل ولا تتحمل الجهد المبذول، فنلجأ لارتداء أى زيّ قديم لنواصل عملنا به، ولا يوجد تحصينات ضد الأمراض، وأكثر ما نشكوا منه هو آلام الصدر، وأوضح أن عمله يحتاج إلى أدوات مهمة جداً للغطس فى المجارى، أهمها بدلة الغطس وحزام الرصاص ليعطى وزناً زائداً للجسم وخراطيم «كومبريسور» ونظارة وحذاء طويل، وهى أشياء مكلفة جداً وسعرها مرتفع لأن لها مواصفات محددة وكل ذلك غير متوافر لنا.
تعرض «عزوز» لإصابات خطيرة من قبل لما تحويه البالوعات من سرنجات وآلات حادة وأمواس وغالباً ما تؤدى إلى التسمم ولكنهم يلجئون إلى الصيدليات للحقن فى وقتها وعلى نفقتهم الخاصة.
مواد التطهير عبارة عن «جردل» فى قلب البالوعة، وحبل سميك يتم النزول بهم عن طريق شخصين أحدهما فى الأعلى والآخر فى الأسفل، لإزالة الرواسب، ولا يستطيعون الامتناع عن تلك المخاطرة لأنه عملهم، وهناك عقوبة وتوقيع للجزاء فى حال عدم الاستجابة للعمل، والغطاس يسبح فى  المواسير بعكس اتجاه المياه حتى إذا ما حدث خطأ ما تدفعه المياه إلى خارج البئر أو الماسورة.
وينتهى عزوز من حديثه ليكمل «عبدالباسط فاروق» – عامل صيانة بالوعات المجارى - قائلاً:  نتعرض لمشاكل وإهانات فى حال عدم قدرتنا على إصلاح البلاعة، ويصل الأمر للتعدى بالضرب من الأهالى، وعند الشكوى لرئيسه فى العمل يكون الرد احم نفسك بنفسك» ولا نأخذ حقنا الأدبى المهدر، وأوضح أن البلاعة عبارة عن غرفة تفتيش لا تعطيهم مساحة للوقوف، وهى دائمًا ممتلئة بالغازات الخانقة، وأحيانا قاتلة، لكنهم يبحثون عن العطل دون أن يلتفتوا إلى أن بقاءهم فى هذه الغرفة قد يتسبب فى موتهم خنقاً، وهو ما يحدث كثيرًا ولا يعوضهم ما يتقاضونه يوميا والذى لا يزيد على20 جنيهاً عن تلك المشاق.
وشدد على أن المهنة لا يعمل فيها إلا عدد قليل، لذا يعتبر نفسه «عملة نادرة» فى مهنة يتأفف منها الجميع، ويخشى الكثيرون الاقتراب منها خوفاً من الأمراض والتلوث.
ويقول عماد السيد -45  عاما - أعمل غطاس مجارى منذ 3 سنوات، وأقوم بكل ما يطلب منى فى العمل، ولم يتم تعيينى إلى الآن أو توقيع تعاقد مبدئى يحفظ حقى كمتدرب، وبالإضافة إلى ذلك أقوم بشراء جميع الأدوات المستخدمة فى العمل على نفقتى الخاصة، ويؤكد أنه لا يوجد أى بدلات للعدوى أو مكافآت للتطهير، بل إن عدد العمال المكلفين بتسليك المجارى فى منطقة بولاق الدكرور مثلا لا يتعد الـ 5 عمال، وعن وسائل الأمان يقول: الأحبال التى نستخدمها فى النزول لغرفة التفتيش ضعيفة ولا تصلح لعملنا، ولا يوجد أى كارنيه يثبت أننا غطاسون مجارى يحمينا وقت الذهاب ليلاً.
ويستطرد غطاء إحدى البلاعات سقط على ذراعى، وذهبت إلى الأطباء وتكلف علاجى 1500 جنيها شاملة الشائعات والعلاج ولم توفر لى الشركة إجازة بل احتسبت فترة علاجى على نفقتى الخاصة، ومازالت أشكو من ألم  به حتى الآن.
ويضيف محمد رجب – عامل صرف صحى - إن أغلب المهندسين المشرفين عليه فى عمله يقومون بتوزيع العمل بناء على المجاملات، بخلاف معاملاتهم السيئة للبعض، وضرب مثلا أنه فى حال حدوث مشكلة فى الصرف الصحى عند أحد المسئولين يكون هناك ما لا يقل عن 4 غطاسين ويترك باقى شكاوى الأهالى.
وعن مواقفه فى العمل قال فى إحدى المرات طلب أحد الأهالى أن أصعد معه لوجود مشكلة فى سباكة شقته ولكن الإرهاق طوال اليوم جعلنى أعتذر له عن الأمر، لأفاجأ به يرفع المطواة فى وجهى ويرغمنى على الأمر عنوة، وحينما اتصلت بالمسئول «قال لى اتصرف»، كما أنه لا يوجد عدد كاف من السيارات يساعدنا فى التحرك السريع للعمل.
الدكتور هانى الناظر - أستاذ الأمراض الجلدية ورئيس المركز القومى للبحوث سابقاً - أكد أن هناك مجموعة من الأمراض الفيروسية والفطرية والبكتيرية يصاب بها غطاسون المجارى حال عدم وجود الزى الخاص بهم، فالأمراض الفطرية منها «التينيا» بأنواعها وهم الأكثر عرضة للإصابة بالتينيا الملونة، وهى عبارة عن بقع بيضاء تظهر على الكتف والظهر والبطن، كما أن هناك نوعًا من التينيا يظهر بين الفخذين وهو عبارة عن التهابات حمراء شديدة يصحبها حرقان شديد، وهناك تينيا تظهر بين الأصابع.
وأوضح أن هناك عدة أمراض بكتيرية تصيب الجلد خاصة إذا كان غطاس المجارى مصابًا بجروح، فتدخل البكتيريا إلى الجرح وتتسبب فى ظهور «دمال وقرح وصديد».
وعن الأمراض الفيروسية أضاف إن هناك مرضًا السنط وهو عبارة عن تكتلات جلدية وتسمى مسمار اللحم، وفى حال دخول أى مياه ملوثة إلى الفم ستؤدى به إلى الإصابة بالتهاب كبدى وبائى، وأمراض أخرى خطيرة نتيجة بكتيريا الفضلات، إضافة إلى تينيا الأظافر التى تنبت تحت الظفر، وطالب بضرورة توفير زى لغطاسى المجارى وتوقيع الكشف الطبى عليهم  بصفة دورية على الأقل كل 3 أشهر.
من ناحية أخرى قالت الدكتور منى سليمان - أستاذ الصحة العامة - إن أغلب غطاسى المجارى يصابون ببكتيريا «الإيكولاى» وأعراضها تكون إسهالًا ونزلات معوية كما يكون عرضة للإصابة  بالتيفود والباراتيفود والالتهاب الكبدى، وأكدت أنه فى حال وجود فئران فى المجارى فيصاب بأمراضها وهى خطيرة تبدأ أعراضها بحرارة ثم تؤد إلى تضخم فى الغدد الليمفاوية.
ونوهت إلى سهولة إصابة الجهاز التنفسى فى ظل تلك الأجواء الملوثة، فتكثر بينهم الإصابة  بالتهاب الحلق واللوزتين والنزلات نتيجة الميكروبات العنقودية وقد يصابون بالكوليرا، إضافة إلى الأمراض الطفيلية بأنواعها مثل الدوسنتاريا والإسكارس.
ومن جانبه قال الدكتور أحمد هيبة - خبير الصحة والسلامة المهنية - إنه قبل نزول الغطاس إلى المجارى يجب إستخدام جهاز «البحث عن الغازات الخطرة» والكشف عنها حتى لا تتسبب فى  اختناق للعمال، خاصة أن عددًا كبيرًا منهم ينزل للبلاعات بدون الأقنعة مما يجعلهم عرضة للاختناق، وأضاف «هيبة» إن غاز الميثان وكبريتيد الهيدروجين وثانى أكسيد الكربون من الغازات الخانقة التى تنتشر فى مياه المجارى نتيجة تحلل الفضلات، ونسب كبيرة غير معلنة تموت بسبب جهل العديد من العمال بهذا الأمر، مشيراً إلى أن غاز الميثان من الغازات القابلة للاشتعال، ونوه إلى أن بعض العمال يشعلون سجائر أثناء العمل وفى حال وجود غاز الميثان مع السجائر من الممكن أن تنفجر البالوعة تحت الأرض، مؤكدًا أن أجهزة السلامة المهنية متوافرة بكثرة وعلى الشركة توفيرها للعمالة فى حال عدم توفيرها كما ينص قانون العمل رقم 12 لسنة 2003.
وأكد أنه فى حال عدم توفير الزى المخصص تعاقب الشركة وتطالب بتعويض العمال فى حال تعرضه للخطر، أما إذا توافر لدى العامل وأهمل فى ارتدائه فيتحمل مسئوليته.
ويختتم الحديث العميد محيى الصيرفى - المتحدث بإسم شركة المياه للشرب والصرف الصحى -بأن الشركة يعمل لديها عدد كبير من غطاسى المجارى كمتدربين، وبناء على جديتهم  فى العمل يتم تقرير تعيينهم من عدمه، موضحاً أن من يتحدثون عن معاناتهم كما رصدتها «روز اليوسف» أغلبهم متدربون.
وأضاف الصيرفى إن التدريب يكون بمكافأة شهرية وليس بمرتب ثابت، ويؤكد أن الزى متوافر لكن أغلبهم لا يرتدونه، وعدد كبير من غطاسى المجارى تم تسليمهم الزى الخاص بالعمل لكن البعض منهم يلجأ لحجة أنه يضايقهما عند النزول فى» البلاعة»، وأكد أن هناك كشف صحى لهم  بصفة دورية ويتم تطعيمهم كل فترة خاصة ضد الالتهاب الكبدى الوبائى.
وعن معاملة الأهالى السيئة للعمال أكد أنه سلوك مجتمعى ولا علاج له سوى التوعية بأهمية عملهم، بل إن البعض من الأهالى يقوم بتركيب مواسير الصرف الصحى بطريقة خاطئة ويتسببون فى طفح للمجارى بشكل مستمر فهناك عقارات تصل إلى 15 طابقًا تعتمد على ماسورة صرف حجمها 8 بوصة.
ونوه إلى أن أغلب الأهالى يتعاملون بطريقة التساهل فى مواسير الصرف الصحى وإلقاء القاذورات وغيره، الأمر الذى يؤدى إلى احتياج البالوعات للتطهير مرتين فى اليوم الأمر الذى اعتبره شاقًا على العمالة المكلفة بالأمر.