فريدة وصدمتها
عبد الله كمال
أردت أن أكتب عنوان المقال في البداية بشكل طبيعي.. فأعطاني معني آخر لم أقصده.. كنت سأقول (صدمة فريدة).. وكان سيعني أن الصدمة التي سأتحدث عنها فريدة من نوعها.. وهي كذلك بالفعل.. لكن (فريدة) التي أقصدها هي صبية مصرية.. ابنة أحد أصدقائي.. عمرها 20 سنة.. طالبة جامعية.. كانت تريد أن تفعل خيرًا.. فصدمها فساد من نوع صغير.. ولكنه مؤلم.
تعرفت فريدة إلي دار أيتام بسيطة في مدينة نصر.. فيها عدد قليل من الأطفال الذين تتم رعايتهم بطريقة يفترض فيها أنها منظمة.. وراحت هي وبعض صديقاتها يواصلن التردد علي الدار.. لكي يعبرن عن تعاطفهن مع أيتام حكم عليهم الزمن بظروف قاسية.
وفي الدار يمكن لمن يريد أن يقدم الرعاية.. أن يختار طفلاً ما.. ويركز عليه جهوده.. ويتولاه بعنايته.. فيقدم له ما يمكنه.. وفي كل أسبوع يمكن أن يصطحب الطفل إلي جولة خارج الدار.. بحيث يكون ذلك نوعًا من العون العاطفي له.. وبحيث يعطون له إحساسًا بأن لديه أسرة بديلة تهتم به وتنشغل لحاله. وفي الدار مديرة.. سيدة كبيرة في السن.. لا حول لها ولا قوة.. وتحتها في الترتيب مجموعة من الموظفات شبه المتعلمات.. تتولي كل منهن رعاية مجموعة من بين الأطفال.. ويطلق عليها الأطفال لقب (ماما).. وكان أن نشأت علاقة رعاية بين فريدة وبين طفل صغير اسمه وليد عمره تقريبًا ست سنوات.. وكانت (مامته) تتابع هذه العلاقة بقدر من الاسترابة.
من الواضح أن فريدة كانت عواطفها جياشة أكثر من اللازم.. ومن الواضح أن أباها وجد في هذا النوع من النشاط الاجتماعي المميز والصحي وسيلة لكي تتعلم ابنته رعاية الأطفال.. ولكي توظف عواطفها في اتجاه اجتماعي وخيري صائب.. ومن الواضح أن فريدة قد حولت رعايتها لوليد إلي حالة عائلية كاملة.. بحيث أصبح وليد واحدًا من الأسرة في إطار ترتيبات الدار.
وانهمر علي وليد فيض من تبرعات العائلة.. ملابس وأطعمة وألعاب.. لكن هذا لم يكن يظهر علي وليد.. كل شيء كان يأتيه لم يكن يظهر في المرة التالية.. وكانت الموظفة (مامته) تطلب فريدة وتقول لها إنه يحتاج إلي هذا وذاك.. وكانت فريدة تقدم ما تستطيع وهو كثير.. لكنها بفطنة بسيطة رفضت كل التلميحات الهادفة إلي أن تدفع فلوسًا سائلة.
10 اغسطس 2009
قبل أيام ذهبت فريدة لاصطحاب وليد إلي جولة معتادة أسبوعيا.. تخرج لتتنزه معه وترعاه.. ولكنها فوجئت به يرتدي ملابس قديمة ومهلهلة.. وسألت عما كانت قد اشترته له من قبل عدة مرات.. فقالت لها (مامته) إن هذا هو الموجود.. ولا شيء غير هذا.. ومن ثم ضغطت علي ما تعرفه من تعلق الصبية بالطفل.. وقررت أنه لن يخرج من الدار.. وأن هذه هي التعليمات.
دعك من أنه تم اكتشاف أن الملابس وكل الأشياء تذهب إلي بيت (الماما).. وأن مديرة الدار لا حول لها ولا قوة.. لكن الفتاة التي كانت تقوم بعمل إنساني وخيري صدمت جدًا.. حين وجدت هذا العنت.. وحين اكتشفت أن دارًا خيرية لرعاية الأيتام يمكن أن تمارس هذا الاستيلاء علي أشياء تافهة وبسيطة تقدمها التبرعات لأطفال.. الله أعلم بحالهم.. وقد كلمتني فريدة وحكت لي ما جري وأدركت حجم المعاناة والمشاعر المؤلمة التي تتعبها بعد هذا الموقف الذي كشف لها عن تلوث تافه القيمة عظيم التأثير.
تُري هل هذه الحالة تخص وليد وحده.. أم أنه يعاني منها كل الأطفال الذين يفترض في الدار أن ترعاهم.. وهل هناك رقابة حقيقية علي تنظيم هذا العمل الخيري البسيط والرقابة عليه.. أم أنه يترك لألف (ماما) من هذا النوع؟.. إذا أراد الدكتور علي المصيلحي أن يتخذ موقفًا من خلال آليات وزارة التضامن الاجتماعي فإن بيانات الدار لدي.. ليس من أجل فريدة المصدومة.. ولكن من أجل أن يستمر هذا العمل الخيري المهم وسيلة لكي يتضامن المجتمع مع أبنائه.. ولكي يظل نقيا.. بدلاً من أن يتحول إلي منظومة فساد تافهة ولكنها شديدة القسوة.