حول الصحافة الخاصة
عبد الله كمال
لست ضد فكرة أن تكون هناك صحف خاصة، أنا ضد أن تقوم الصحف الخاصة علي أساس إخفاء وإنهاء الصحافة القومية.. كما أني ضد أن تكون الصحف الخاصة أداة في يد مصالح البيزنس.. بينما تدعي أنها مستقلة مما يعني التدليس علي الرأي العام... وضد أن تكون الميزانيات غامضة ومصادر الأموال الطائلة غير معلومة.
وفي الأيام الاخيرة، راح البعض، دفاعًا عن الصحافة الخاصة، يروج لفكرة شكلها براق.. وجوهرها غير دقيق.. حول أن الأصل في تاريخ الصحافة المصرية هو أن الصحف كانت خاصة.. وأن هذا مآلها.. ومن ثم فإن من غير الطبيعي أن تكون هناك صحف قومية.. بل الأساس أن تكون الصحف خاصة.. هذه فكرة تستحق التفنيد.
لم يكن سليم وبشارة تقلا، مؤسسا الأهرام العظيمان، اللبنانيان اللذان هاجرا إلي الإسكندرية في القرن التاسع عشر، رجلي أعمال، بل شابين بدآ حياتهما صحفيين.. يترجمان ويحرران مواد الجريدة العريقة التي صدرت في البداية أسبوعية في أربع صفحات.
وفاطمة اليوسف أصدرت مجلتنا الأشهر، في 1925، بتبرعات ومساهمات مجموعة من الصحفيين، البسطاء، ومدخراتها القليلة جدًا، ولم تكن رجل أعمال.. أو تاجرة قطن.. بل معتزلة للمسرح.. الذي كانت تلقب فيه بسارة برنار الشرق.
وكان جورجي زيدان مؤسس الهلال روائيا معروفًا وكاتبًا كبيرًا، وأسس الشاعر الكبير خليل مطران مجلة بدوره، وكان الشابان مصطفي وعلي أمين صحفيين وأسسا أخبار اليوم.
والمعني أن هناك سياقًا كان موجودًا في الأساس لكي يصدر هؤلاء العظماء صحفًا خاصة.. لديهم خلفية تاريخية محددة.. لا هم رجال أعمال.. ولا هم من كبار المليارديرات ولا رموز إقطاع ما قبل الثورة.. وبالتالي كان لهم نسق ثقافي ومسار مقبول يدفع بهم إلي هذا المجال. وتوارثت أسرهم جميعًا تقريبًا العمل في مجال تلك المهنة.
أما إن الصحف الخاصة قبل الثورة، وقبل إجراءات التأميم، كانت مشروعًا ثقافيا، أو مشروعًا سياسيا معلنًا، أو عملاً صحفيا خالصًا، أو استطرادًا لمسيرة فنية، ليست نتوءًا في حياة من أصدروها.. ولذا لا يمكن قبول الفكرة التي يرددها كثيرًا الملياردير صلاح دياب في هذا السياق من أن الأصل في الصحف أنها تكون خاصة.. مضيفًا وهذا هو تاريخ الصحافة المصرية.
الملكية، وطبيعتها، تحدد نهج الصحف، ولا يمكن مثلاً أن تتوقع من صحيفة قومية مصرية أن تروج للمشروع الإيراني.. وأن يكون هذا نهجها حتي لو مر مقال ضد هذا المعني.. ولا يمكن أن تتوقع من جريدة مثل المصري اليوم أن تنتقد خدمات البترول أو التعاون مع الولايات المتحدة أو تجارة الشتلات أو تتكلم عن تراخيص محلات الجاتوه.
الصحف الخاصة قبل الثورة كان يجمعها التناثر حول المشروع الوطني من أجل التحرر من الاحتلال.. وبعضها كان يمالئ الاحتلال (المقطم كانت تتبع السفارة الإنجليزية واندثرت).. والأغلبية كانت تقف مع المشروع المستمر ضد بريطانيا.
وعلي الساحة الآن يوجد نسقان يتسقان مع الخلفية التاريخية للصحافة الخاصة التي أتحدث عنها.. من قبل الثورة.. الأول هو جريدة الشروق ويملكها إبراهيم المعلم.. ومؤسسة العالم اليوم ويملكها عماد الدين أديب وآخرون.. الأول ناشر كتب والثاني صحفي.. فهل هذا يعني أنني أؤيد النموذجين ؟ ليس شرطا.. فقد اختلف لأسباب أخري.. ولكن يجب أن أذكر أولاً أن الثاني(أديب) لم يخض حملة مرتبة ضد الصحافة القومية وإن بدأ باستقطاب كوادرها.. وثانيا أنني لست ضد الصحافة الخاصة كنوع من أنواع الملكية في حد ذاته من الأصل كما أوضحت.
وهناك عشرات من الملاحظات علي المشروع السياسي الذي تتبناه جريدة الشروق، قد يكون لطبيعة الملكية ومصادر التمويل علاقة بهذا...وقد لا يكون.. هذا أمر محل تحليلي الخاص.
خلاصة الفكرة أن الصحف الخاصة يجب أن يكون لها نسق.. والنسق لا تصنعه الثروة.. وإنما القيم التي تؤمن بها وتسوقها.. والصحافة الخاصة حين تهاجم الصحف القومية إنما تضر مصالحنا المباشرة.. والأهم أنها أيضًا بهذه الطريقة تعمل ضد الدولة وقيمها.. وضد توازن حقيقي في المجتمع.. ليست هي منشغلة بالحفاظ عليه.. بل في أحيان كثيرة تعمل في عكس ثباته.
www.abkamal.net
[email protected]
12 اغسطس 2009