الأربعاء 17 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

يا أبناء الدولة المدنية اتحدوا

يا أبناء الدولة المدنية اتحدوا
يا أبناء الدولة المدنية اتحدوا




هشام فتحى يكتب:

بالقطع ليس هدف الدولة المدنية إلغاء الدين، وذلك لسبب بسيط وهو أن الدين علاقة قلبية وشخصية بين الإنسان وإلهه، ولا يمكن لأية سلطة كانت أن تكون لها القدرة على إلغاء تلك العلاقة، إذ لا يمكن الإمساك المادى بها وإرسالها للمعتقل.
أما الهدف هو إفهام الشعوب أن السلطتين الدينية والسياسية اللتين تزعمان أنهما الحاميتان للدين هما سلطتان غير صادقتين بهذا الخصوص، فالأديان متنوعة ومختلفة بطبائعها وظروف إنتاجها، إذ إنه وعلى مر الزمن قد تلبس الكهنوت وساسة السلطة مسوح الدين لتحقيق مصالحهم المادية فى السيطرة الإقتصادية والسياسية وإخضاع الشعوب وتوحيدها تحت راية سلطة واحدة، ولم تكن الدعوة للدين من أجل الدين ذاته بل من أجل الأهداف الأبعد فى التوحيد السياسى والاستلاب الإقتصادى المتمثل فى شفط ثروات الشعوب باسم الآلهة التى فرضت القتل وسفك الدماء ونقل «الملكية الثروية» وتوريثها للشعوب المنتصرة..يقينا إن الأديان بطبائعها متنوعة ومختلفة، ويصدق التاريخ على حقيقة هذا التنوع بوضوح، إذ ارتبط الدين فى المجتمعات الزراعية بآلهة الخصب والنماء والاستقرار السياسى والاجتماعي، وليس أدل على هذا الاستقرار إلا طول مدة بقاء الدولة المصرية القديمة التى ارتبطت بنهر النيل، وطغى نفوذ كهنة «آمون» لقربهم من «تحوتمس الثالث» وضيقوا الخناق على كهنة «رع» و«فتاح»، وظفروا بالمظافر والفتوح من فرط ما أغدق عليهم الملك الفرعون من الهبات والحبوس والأوقاف، ولكنهم ذهبوا فى الطغيان كل مذهب على عهد خلفائه فطمعوا فى نفوذ الملك بعد أن اطمأنوا إلى نفوذ الدين - أنظر : عباس محمود العقاد - الله.
أما مجتمعات الرعى والبداوة فقد ارتبط الدين لديها بالترحال والغزو طلبا للماء والزروع وسرقة ثروات الشعوب وإفنائها إذ لا تكذب «التوراة اليهودية» حينما تذكر فى سفر يشوع أن «يهوه» قد أرسل شعبه من صحراء سيناء باتجاه أرض كنعان لتدمير البشر والحجر وإفناء الإنسان والحيوان ومن ثم احتلال الأرض وإقامة دولة «شعب الرب» - انظر الكتاب المقدس - العهد القديم - سفر يشوع، أما العرب الذين قدموا من صحراء جزيرتهم لمصر، فلقد أرسل قائدهم - بعد انتصاره على الرومان وتمكنه من الأمر - قافلة تجارية محملة بكل ما لذ وطاب من خيرات المصريين إلى مقر عاصمة العرب «المدينة / يثرب»، وقام بفرض الجزية على المصريين، وأحل ثقافته البدوية محل الثقافة المصرية القديمة فنزع المصريين من لغتهم وعاء ثقافتهم ليعلمهم لغة العرب بوعائها الصحراوي.
وفى مجتمعات العصور الوسطى بأوروبا، سيطرت الكنيسة على السلطات السياسية والثقافية والعلمية على السواء، فخمدت روح الإبتكار والتجديد، وتم قتل العلم بإسم الرب والكتاب، وراجت تجارة «صكوك الغفران» لمن يدفع أكثر فيدخل ملكوت السماوات، وانتشرت  «محاكم التفتيش» فى الضمير الإنساني، وتمت محاربة العلماء والفلاسفة باسم الرب بتهمة الهرطقة والتجديف ومخالفة تفاسير رجال الكنيسة للكتاب المقدس، وفى وسط هذا المناخ الظلامى قادت الكنيسة أوروبا للحرب الصليبية نحو الشرق لتحرير الأماكن المقدسة فى فلسطين باسم الدين، بينما الدين بريء من ذلك، فلقد عادت الكنيسة الكاثوليكية الغربية واعتذرت للعالم وللمسلمين - بشجاعة نادرة - عما سببته الحروب الصليبية من دمار وقتل وسفك دماء وتخريب، وبالتالى أضحى التبرير القديم عن وحى الروح القدس بالحروب الصليبية تبريرا غير صادق، ولكن حق علينا أن نلاحظ أن اعتذار الكنيسة تم فى مناخ الدولة المدنية الاوروبية الحديثة.
وبعد أن تم فصل الدين عن الدولة، أو بالأحرى إعادة سلطة الدين ورجاله إلى المكان الطبيعى فى «المعبد»، وترك المجتمع وسلطته السياسية يديرون شئونهم أيديهم إذ هم «علم بشئون دنياهم».
أما بجغرافيتنا البائسة، فما زلنا نعيش استلابا دينيا من قبل السلطتين السياسية والكهنوتية منذ أن أسس الرئيس المؤمن أنور السادات الجماعة الإسلامية منتصف السبعينات من القرن الماضى وسمح بتسليحها بغية تغيير خريطة المجتمع المصرى بالقوة، فمزق نسيجه الوطنى لأهداف سياسية يعلمها البسيط قبل الفاهم الواعي، وحينما اعترض المفكر الليبرالى «فرج فودة» على نظام الاحتكار بالتعليم لطائفة دينية من طوائف المجتمع بتلك المؤسسة الدينية العريقة التى يدفع لها عموم المصريين رواتبهم أردته يد الغدر قتيلا أمام بيته بلا رحمة.
وبالرغم من أن النظم العربية اختارت لنفسها نظام «الخصخصة» الاقتصادى منفتحة على الاقتصاد الحر، ورفعت يد الدولة عن إدارة معظم الأموال العامة إلا من باب الرقابة المالية والمحاسبية من خلال رقابة مواد الدستور والقانون، إلا ان تلك النظم تأبى أن تحرر الدين من ربقة السيطرة السياسية والكهنوتية، فالدساتير العربية تنص فى موادها على البنود الدينية الحاكمة ما جعل هذه الدول دولا دينية تحكم شعوبها بنفس سياسات حكومات العصور الوسطى، وتشكل المؤسسات الدينية فى العالم العربى كهنوتا إرهابيا للنفس الإنسانية وللعقل العربى فتغلهما عن الانطلاق للأرفع والارقى والأفضل.
إن الاصطفاف من أجل الدولة المدنية هو البديل الصحيح للدولة الدينية فى العالم العربى وفى العالم أجمع، ولا سبيل لتحرر الشعوب العربية من تخلفها العلمى والإنسانى وكذلك السياسى والقانونى إلا بفصل الدين عن الدولة، ووضع الدين بموضعه الطبيعى داخل القلوب إذ لا سبيل إلى عقلنته أو تسييسه أو تكهينه (من الكهانة)، ولله در «ابن أبى طالب» لما قال «لا تحاجوهم بالقرآن فالقرآن حمال أوجه».
إن فصل الدين عن الدولة هو الطريق الوحيد لمساءلة الحكام ومحاسبتهم بعد نزع (هالات القداسة) من حول وجوههم وانكشاف ظهورهم للقصاص «إن لكم فى القصاص حياة ياأولى الألباب لعلكم ترحمون».