الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

غداً نعرف

غداً نعرف
غداً نعرف




إيهاب كامل  يكتب:

 شاهدت فى سن مبكرة، فيلم «المخدعون» للمخرج توفيق صالح عن رواية الكاتب الفلسطينى غسان كنفانى «رجال فى الشمس»، كطفل لم يُعجبنى الفيلم، أو بتعبير أدق « لم أفهمه»، ولم أستطع أن اتواصل مع لغته السينمائية الصعبة على عمرى حينذاك، تكرر الأمر نفسه مع فيلم آخر لتوفيق صالح هو «السيد البلطى»، لكن شيئاً ما بداخلى قال لى: لا تشغل بالك الآن بهذه الأفلام ولا تحكم عليها بالفشل، فما لا تعرفه ومالا تفهمه الآن قد تعرفه جيداً بعد سنوات، تماما مثلما اكتشفت بعد فترة طويلة من مشاهدتى لفيلم «هوك» أن داستن هوفمان هو نفسه «الكابتن هوك» غريم «بيتر بان».
منذ أيام فاجأتنى وعكة صحية.. حرارة شديدة أدخلتنى فيما يشبه الغيبوبة، وفى مرحلة الهلاوس والتخاريف، زارنى غسان كنفانى ومعه أبو قيس، وأسعد، ومروان، وأشار ناحيتهم وهو يقول ساخراً: يا لوقاحتهم.. أما زالوا يخدعونك بأن شجرة البرتقال ستطرح من جديد.. احذر «أبو الخيزران» سيأتى كل يوم فى شكل جديد ليخدعك ويسرق خبزك..احذر لصوص الروح، وغلمان السلطان، والمماليك فحديثهم عن الحرية أو غيرها لا معنى له، فهم يتحدثون عنها ولا يعيشونها، همهم هو التشفى والانتقام وتصفية الحسابات الشخصية والجرى وراء مصالح ذاتية ضيقة واقتناص أكبر مكاسب ممكنة، لا تهرول خلفهم، فبضاعتهم رخيصة، وبيوت الأقزام لا تصلح لمن يطلب الحياة.
أشعل كنفانى سيجارته وسألني: كيف حالك فى وطن تتكاثر فيه جوازات السفر، وتتناقص فيه بطاقات التموين؟.. وطن يعيش أغلب من فيه فى انتظار أن يلعب الزهر لعبته، فيجدون فرصة للهروب، كى تتغير حياتهم.. وطن يموت فيه الكل بالفساد، حتى فوزية (كلب البحر) التى قتلتها وجبة سمك فاسدة.. وطن تنصح فيه وزارة الصحة المواطنين بعدم تناول الفسيخ الذى ينتج محليا من أجل شم النسيم، من دون أن تفكر فى منعه، حكوماتنا فقط تحذر، تماما مثلما تفعل شركات الدخان مضطرة لوضع تحذير على علب السجائر، وتترك لك حرية الموت بالاختيار، وطن يدفع فيه الفقراء الضرائب ويسهل لرجال الأعمال التهرب والمكاسب.. إنها ديمقراطية السم الهارى.
قلت لغسان: إذا كنت قد يئست وتنصحنى أن أبحث عن وطنٍ جديد؟، فلن أفعل، ولن أقبل أن يكون مصيرى، مثل مصير أبو القيس.. جثة ملقاة فى الصحراء وسط النفايات كثمن للهجرة غير الشرعية، مازال حلمى بيدى يا غسان.
سمعت صوت محمود درويش ينشد:
«لا تخافوا يا أهالى الجبل العالى فلن نمكث إلا ليلتين معنا ماء، وخبز وهواء.. معنا أصواتنا معنا ما يقطع الريح إلى نصفين»
أيقظتنى يد ابنى يوسف وهو يتحسس الحرارة على جبينى، ولما أفقت تأكدت أن افكارى كانت مجرد هلوسة، فأنا لا أحب السياسة، ولا أرهق نفسى بحساباتها واحتمالاتها، لا أجيد لعبة التوازنات وأساليب الطرح والجمع، وآليات الضغط واستغلال المواقف، وكل ما أفكر فيه وأتمناه هو أن نبنى البيت من جديد، وأن نتخلص من ضغائننا، وأحقادنا المتبادلة، ومصالحنا الضيقة، لتعود مصر هى همنا الأول والأخير.