الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

أيام فى «ريش»

أيام فى «ريش»
أيام فى «ريش»




عاطف بشاى  يكتب:

هنا معبد تقدم به القرابين إلى البطل الراحل الذى أصبح رمزاً للآمال الضائعة.. آمال الفقراء والمعدمين.. هنا أيضاً تنقض شلالات السخط على بطل النصر والسلام.. النصر ينكشف عن لعبه والسلام عن «تسليم» .
أما العبارات السابقة فهى لأستاذنا الكبير «نجيب محفوظ» والتى وردت فى روايته البديعة «يوم قتل الزعيم» وأما المكان الذى يقصده فهو مقهى «ريش» التاريخى بميدان «طلعت حرب» بوسط البلد والذى كان يقيم فيه أديب « نوبل « ندوته الأسبوعية الشهيرة والتى كانت تضم أبرز أدباء وفنانين وشعراء  ونقاد العصر بالإضافة إلى الثوريين والشباب من محبى الثقافة والفنون.
وفى مقهى «ريش» عرفت الكبار والصغار.. العظام والصعاليك.. قادة الرأى ومفكرى العصر وعقول الأمة والمثقفين الحقيقيين.. وأنصافهم وأرباعهم.. الأدباء الموهوبين والشعراء الفحول.. والرسامين المرفهين.. والنقاد العتاولة والمزيفين.. والطبالين والأفاقين والانتهازيين والأدعياء.. الثوار والخونة.. العمالقة والأقزام.. متمردى العصر وكهنة التحريم.. الأتقياء والملاحدة.. عاصرت الشاعر والمؤلف الدرامى والمخرج المسرحى الكبير الراحل «نجيب سرور» الذى كان يملأ الدنيا فناً وتوهجاً وصخباً وجنوناً فى سبعينيات القرن الماضى ويخوض معارك أدبية وفكرية وسياسية نارية وجسورة متحصناً بضمير يقظ شفاف ومستخدماً قلماً حاداً لاذعاً كأسنة الرياح.. يهتك به أستاراً من الزيف والكذب والنفاق.. ويسخر فى هجاء قاس من نماذج بشرية.. شوهاء.. وكنت اجالسه بالمقهى فيأسرنى بعطفه الفياض ويحن على دون أن أطلب بأن يزكينى لدى رؤساء تحرير المجلات الراسخة وقتها مثل «الكاتب» و«الطليعة» لينشروا لى بعض المقالات وأدار عينيه فى الجالسين حوله من بعض المثقفين الأصدقاء.. وأنهال عليهم بالهجاء المرير الذى كان يصور من خلاله حالة الفصام الفكرى التى يعانى منها من يكذبون ويخادعون ويتلونون ويتحولون.. ويرتدون الأقنعه ويحتالون ويدعون الصدق والأخلاص.. ونقاء السريرة وطهارة المقصد.
وقد ظهر هذا الهجاء المرير بأبداع ما يكون فى قصيدته (بروتوكولات حكماء ريش) التى يصف فى دباجتها النقاد «سحالى الجبانات» والشعراء والقصاصين بأنهم هواه البحث عن الشهرة والخبراء بكل صنوف الأزمات.. ويتكلم باسمهم فينصح الملتقى إذا أراد أن يتشبه بهم ألا يقرأ شيئاً يكفى أن يكون «حمال حطب».. فيحمل طن كتب ويضعه بجانب قنينة «بيرة» ويشرب.. ولا يقرأ.. وإذا قرأ يجتهد ألا يفهم شيئاً مما يقرأ (ليس يهم اليوم الفهم / فالمفهوم اللامفهوم / أو بالعكس / لن يسألك أحد معنى قولك / فالمفروض / للامعنى للأشياء وللكلمات).
وعندما تدهور «نجيب» نفسياً للمرة الأخيرة من مرات دخوله مستشفيات الأمراض العقلية حوصر بضيق ذات اليد والإفلاس وقهر السلطة الذى ضيق عليه الخناق فأصبح لا يملك قوت يومه، كان ملك جرسون المقهى يطارده فى شوارع وسط البلد لينتزع منه ثمن المشروبات الزهيدة التى احتساها.
وعلى مقهى «ريش» كان لقائى الأول المهم بأستاذنا الكبير «نجيب محفوظ» وقد كان من دواعى الزهو والأحساس بالفخر أن أبدأ رحلتى فى التأليف الدرامى لكتابة سيناريو وحوار الفيلم التليفزيونى (تحقيق) المأخوذ عن قصة قصيرة للأستاذ وكان لنجاح الفيلم من قبل النقاد والمتلقين دافعاً قوياً لى إلى الاستمرار واكتساب الثقة خاصة أن القصة كانت صعبة التحول إلى عمل مرئى.
وحينما استرجع تلك الأيام فى بداية الثمانينيات أتذكر أن المنتج طلب منى موافقة كتابية من أستاذنا الذى علمت أنه يجلس بمقهى «ريش « فى الصباح الباكر.. ذهبت إلى هناك ووجدته يطالع الصحف فى تركيز.. انقضضت عليه متلهفاً أن أحصل على موافقته وبادرت بتقديم نفسى إليه لكنه استمهلنى فى حسم مردداً:
-  ولكنى أقرأ الجرائد الآن
انسحبت فى حرج بالغ وجلست إلى منضدة قريبة وأنا أقرض أظافرى فى توتر وترقب.. وما أن طوى آخر جريدة يطالع فيها حتى عاودت الأنقضاض عليه فاستقبلنى فى مودة تتناقض مع زجرة السابق وبعد مناقشة قصيرة وافق بترحاب على معالجتى الدرامية للقصة.
المهم أنى صرت منذ هذا التاريخ قريباً من الأستاذ أحضر ندوته الأسبوعية بالمقهى وألتقى  بالكبار الذين يحيطون به والتلاميذ الأوفياء والأصدقاء الحميمين له.. وكان لى شرف أن أتناول عملين آخرين من أعماله الكبيرة وهما «أهل القمة» و«حضرة المحترم» من خلال كتابة السناريو والحوار لهما كمسلسلين.
وأخيراً تلعب الأقدار لعبتها ونفاجأ بوفاة «مجدى عبد الملاك» صاحب المقهى الحارس الجميل والراعى الأمين والضمان الوحيد لبقاء ذلك الصرح الرائع والأثر الثقافى العتيد ملكاً للمثقفين وملتقى للمفكرين وملاذاً لعقول تنشد التنوير والرقى الحضارى.