الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«شرابى» الذى علمنى الغضب!

«شرابى» الذى علمنى الغضب!
«شرابى» الذى علمنى الغضب!




يكتب: أحمد الرومى

 

كَبَشَ شعر مقدمة رأسى بقبضة يده، وأحكم غلقها بقوة، وأخرج من جيبه، باليد الأخرى، مقصًا صغيرًا من النوع الذى يطوى ويبسط، ثم جزّ ما جمعت يده، ورماه أمامى على الأرض، وتركنى ومضى بهدوء الميتين. 
لم أجد تفسيرا لفعلة «الأستاذ فتحى شرابى» مدرس الجغرافيا، الذى قرر أن يشوه شكلى الطفولى، أثناء فسحة أحد الأيام الدراسية للمرحلة الإعدادية.
عند الحلاق عالجت ما شوهه هذا الـ«شرابى»، كنت أراقب بحسرة مقص الأول وهو يكمل، مرغمًا، مسيرة جزّ شعرى البرىء، ليخفى ما اقترفه مدرسى الملووث. لم اقتنع بالحيثيات التى أرساها «شرابى» ليبرر جريمته: «شعره طويل وعامل زى البنات».
أتذكر أننى لم أغضب فى حياتى مثلما غضبت من هذا الاعتداء، وقتها قررت الانتقام، عزمت أن أشرم فروة رأس «شرابى»، بطوبة أصوبها نحو دماغه، عن بُعد، يصعب معها رتق جرحه إلا بإزالة شعره بالكامل، لكن أمى ردتنى عن هذا الفعل بدافع «صفح المقتدر».
كان «شرابى» يظن أنه حاكم الكون، وليس مجرد مدرس مهمش فى مدرسة لا تقدم علما لطلابها بقدر ما تقتل الحياة فيهم، كانت تلك المدرسة هى منظومة فريدة للفشل والقهر والقمع والتسيب والاستهتار. 
كنت كلما أسمع مدير المدرسة يتكلم فى طابور الصباح عن النظام والاجتهاد والعمل والجد والانجازات التى حققها على مدار العام الدراسى، كنت أجتهد فى كتم ضحكى، كان كذابا محترفا، يبيع الوهم للطلاب، ولا يقوى على مواجهة فشله فى أن يكون ناظرًا محترمًا لمدرسة معدة لأن تصنع أجيالا صحيحة، لتنفع هذا البلد وتبنى مستقبله.
كان «شرابى» مدرسًا فى منظومة عفنة، تجرع فسادها وطرشه فى وجوهنا ألوانا من الغبن، فكيّل لنا سوءاته أفعالا عنيفة، قاهرة، ليعوض بها نقصه ويرسخ سطوته المتهالكة وسلطانه البليد، فكان على شفا أن يصبح «شرابى ذا الرأس المشروم».
عندما تجبّر «شرابى» كان فى مخيلته، القاصرة، أنه لن يقدر عليه أحد، لم يعرف أن «العيال»، وإن كانوا أبرياء، لهم حركاتهم العنفوانية، القادرة على المجابهة. وإن تلخصت هذه المواجهة فى النيل منه ومديره والمنظومة كلها، بالسخرية الناعمة.
لم يعلم «شرابى» أنه استطاع (بحركته الموتورة) أن يكبدنى خسارة شعرى بعض الوقت، لكنه لم يقدر على تشويهى فترة طويلة من الزمن، بل ما أحرزه هو تشويه صورته لدىّ إلى الأبد.
استطاع «شرابى» أن يجعل نفسه أيقونة للظلم والاعتداء، رسخ بداخلى فكرة أن الدنيا بها أناس تفعل الشر بنفسِ راضية، باسم الإصلاح تارة، والبناء تارة أخرى، رغم أن القهر لا يعرف البناء، ولا الظلم يُصلح ما فسد.
لم يفلح الأستاذ «شرابى» إلا فى كسب حنقى وحصد غضبى. لقد خسر تلميذا كان من الممكن أن يكون سندا له، كان من الممكن أن يصبح هذا المقال مديحا فيه، وفى أستاذيته النبيلة، ورشادة تصرفه، لكنه اختار طريقه منذ البداية، فرصّع ذِكرهُ بعاره وسوءاته.
كان لدى الأستاذ «شرابى» فرصة عظيمة للوجود النبيل، لكنه أبى واستكبر، وسخّر كل طاقته لصناعة الوهم بتصرفات طائشة. صحيح أن «شرابى» درّس الجغرافيا لعشرات التلاميذ، لكنه تاه فى طرقات المدرسة، غاب عنه أنه معلم، لا فتوة، أستاذ، لا سجان لتلاميذه. 
خسر «شرابى» كل شىء، سمعته، تاريخه، أهان نفسه باقتدار. والمؤكد أنه الآن غير منتبه لهذه الخيبة، بل قد يكون جالسا فى بيته يعطى درسا خصوصيا لطالب نظير منحه درجات ليست من حقه، وقد يكون المقص الذى طواه يوما ما لاغتيال معنويات التلاميذ مازال قابعا فى جيبه. قد يكون هذا وضعه الآن، لكنه، فى كل الاحوال، لن يتصور أبدا أن أحد تلاميذه الذى مارس عليهم التعدى والجور، جلس ليكتب مقالا يخلد فيه جريمته التى اقترفها فى حقه منذ سنوات ونسيها، لجهله أن المظلوم لا ينسى مَن ظلمه أبدا، ولا يترك ظالمه مهما طال الزمن.
لقد أضاء «شرابى» فى صدرى طريقًا طويلا للغضب، امتد حتى بعد أن تركت مراحل التعليم الثانوى والجامعى، لقد اكتشفت أن «شرابى» ليس مجرد مدرس ملووث فحسب، بل هو فكرة، وطريقة، وعقيدة، وسياسة، تسيطر على حياتنا، تقصّ لنا شعرنا يوميا، وتدوس على شعورنا، وتجزّ أحلامنا، وتقبض على مصائرنا وأرواحنا، وتلوعنا وتروعنا، «شرابى» ليس مجرد مُدرس ملووث، «شرابى» طريقة حياة ونظام لابد ينتهى.