الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى الأتوبيس

فى الأتوبيس
فى الأتوبيس




إيهاب كامل  يكتب:

الأوتوبيس لم يعد وسيلة مواصلات وفقط.. الأوتوبيس صار هو الحياة بكل ما فيها، ففى الأوتوبيس تقابل أعضاء حزب الكنبة، كما تقابل الثوريين، والمخبرين، والمهمشين، وباعة كل شىء (ماعدا الأوطان.. ) الأوتوبيس برلمان شعبى مثالى، يتحاور فيه الكل باتساع، ويختلفون بلا تهديد، ويفتحون كل الموضوعات بلا خضوع للائحة، أو ورقة تعليمات سرية، وفى الأوتوبيس أيضا تقابل فلاسفة حكماء فى ثياب شحاتين، وتقابل خبراء استراتجيين فى ثياب أنيقة يتحدثون عن حروب الجيل الخامس والمؤامرة الصهيوامريكة، ويشرحون بالتفصيل مخططات الماسونية العاليمة، ويتنبأون بأسماء التشكيل الوزارى الجديد كما يتنبأون بنتائج مباريات كرة القدم، يصدقون فى أحيان كثيرة، وإذا خالف الواقع توقعاتهم، فليست هناك أى مشكلة، لأن كل جلسة تنتهى معها موضوعاتها، ليبدأ الراكبون الجدد مناقشة أى شىء وكل شىء، ليس من أجل الوصول إلى نتيجة، بل من أجل تسلية الوقت والتسرية عن النفس لحين الوصول إلى محطة النزول.
فى الأوتوبيس تشعر أن هذا الوطن المحاط بالغموض والملىء بالأسرار ليس فيه سر، حتى أن خبراء الأمن وجنرالات الأوتوبيس يتبرعون بكشف غموض أعتى الجرائم، ويقدمون المتهم بالاسم والدوافع، سواء كانوا جالسين على الكراسى (هذه هى الكراسى الوحيدة التى يتم تداولها فى مصر)، أو واقفين وسط الزحام، ويدهم مشدودة فى حديد الأتوبيس، بينما بعضهم يؤكد أنه الخبير الوحيد الذى يعرف قاتل كنيدى، ويعرف أين يختبئ الحاكم بأمر الله.
***
قبل يومين أثناء الموجة الحارة، كنت أقف على المحطة انتظر الأوتوبيس سألنى رجل عجوز: قولى يا حبيبى هو اتوبيس كام يروح التحرير؟ قلت: كتير يا حاج.. اللى جاى هناك ده رايح. سألني: أزرق ولا أحمر؟ أرد بتعجب: يعنى أيه؟! يقول: يعنى بجنيه ولا باتنين جنيه.. أصلهم كل ما يحبوا يغلوا الأجرة يدهنوا الأوتوبيس لون تاني، مع انه من جوه هوه.. هوه، من غير أى فرق أُجُيبه: أزرق يا حاج. أركب الأوتوبيس الأزرق بينما ينتظر العجوز الذى فرمته التجربة، إلى جوار «جودو» حتى يأتى الأوتوبيس الأحمر.
 ***
يبدو أن حرارة الجو الشديدة فى ذلك اليوم قد تركت تأثريها على الركاب وحواراتهم اليومية، وإليكم هذا التقرير:
*  يا عم دول حرقوا العتبة وشردوا البياعين الغلابة علشان عاوزين يبيعوا الأرض لرجل أعمال سعودى هيعمل مول كبير ويقولك دى منطقة تاريخية
* تاريخ مين يا عم؟.. بلا تاريخ بلا جغرافيا
يا ناس اتقوا الله.. بطلوا إشاعات بقى، كفاية خربتوا البلد
* هدى أعضاءك ياعم الحاج.. البلد خربانة من ذات نفسها وبشهادة كبراتها
 * أنت بتزعق لى ليه يا عم! هو أنا اللى أخدت قرار تعيين الناس اللى معاهم جنسيات عربية فى الحكومة واحنا مش عارفين نشتغل ولا نعيش.. ما تشوفوا مجلس الشعب ده يشوف صرفة فى القوانين العوجة دي
* يا مواطن قول يا باسط .. ما تحاسب يا عم دوست على رجلي.
يقطع الحكايات صوت رجل أعمال أتوبيساتى: بجنيه بجنيه كله بجنيه يا بختك يا سعدك يالى تشترى.. الحق قبل ما تغلى بجنيه بجنيه.
***
يركب عدد من الركاب بينهم شاب فى يده كلابشات وإلى جواره فرد أمن، بينما يمر الكمسارى برشاقة بين الركاب المتلاصقين: تذاكر.. معاك فكة؟.. عدينى يا ست، وعندما يصل أمام الشاب أبو كلابش، يرفع الشاب يده «المكلبشة فى يد العسكرى ويقول للكمسارى ساخرا: حكومة. يلتفت صنايعى من الطراز القديم ناحية العسكري، ثم يوجه سؤالاً لشعب الأوتوبيس لا تخصيص: هى الحكومة دى بتكرهنا ليه؟.. طيب خللى وزير فيها يركب معانا الأوتوبيس يوم، ويتزنق فى الولعة دي، ونشوف هيعمل تانى يوم فى قراراته، أكيد لازمن هيحس بينا. يحس إيه يا اسطى؟.. الناس الكبار دى مش هيحسوا بالغلابة أبداً.. كل كلامهم غش لزوم التليفزيونات. يا ظالم ما هم عملولك دعم على بطاقة التموين! ضحكة خشنة، وسؤال استنكارى حصد أكبر كمية «لايك» فى الأوتوبيس هذه الرحلة: أنا اللى ظالم.. يعملو إيه 3 جنيه عميانين على البطاقة فى رمضان؟.. يعملوا إيه قصاد كيلو الرز أبو تمانيه جنيه، وفاتورة الكهرباء اللى ولعت، والغاز والميه والزبال ومصاريف العيال.. حسبى الله ونعم الوكيل.
فى حسرة ومرارة صرخ رجل يضيق حول رقبته طوق الهموم : تصدقوا أنا راجل على المعاش نزلت اروح التأمين الصحى علشان اكشف مخ وأعصاب مش قادر أمشى من الوجع قالوا لى معادك بعد شهر، أفضل تعبان شهر؟.. الناس دى مفيش فى قلوبها رحمه ده؟.. أنا راجل فوق السبعين وخدمت البلد، وكنت واحد من اللى حاربوا فى سينا، تكون دى جزاتى؟! ومن نهاية الأوتوبيس ردت سيدة بالكاد يخرج صوتها من فرط العجز والشيخوخة التى ترسم على وجهها خطوط رحلة طويلة مع المعاناة: احمد ربنا يا حاج ده أنا بقالى شهرين رايحه جاية على وزارة التموين علشان امشط البطاقة.. اروح للبقال يقولى ارجعى تانى.. البطاقة قايمة سوده، تعبت والله مش قادرة على المشوار.. ربنا ياخدنى علشان ارتاح. يرد طالب جامعى ضاق من الحديث: بتدعى على نفسك ليه يا حاجة؟ ادعى على اللى بيتعبك بدل ما يشيلك فوق كفوف الراحة. يرد زميله ضاحكاً: ايه يا بشر؟.. انتم قلبتوها غم كده ليه؟ احنا منسيين منسيين.. كبروا دماغكم، وكل واحد يعيش اليومين اللى فاضلين له والسلام. يشتمه صاحبه: ما احنا عايشين يا... بنعافر ونتزاحم، ونضحى عشان نحمى بلدنا، وبرضو مش عاجبين، وبيقولوا ان احنا السبب فى مصايب مصر.. احنا اللى بوظنا التعليم والصحة، وعملنا العشوائيات والزحمة فى الشوارع، والغلا، وقلة الضمير.. ناقص يقولوا أن أحنا اللى بعنا الارض لرجال الأعمال برخص التراب، واننا كمان السبب فى الحر. يضحك الركاب، برغم كل هذه الشكاوى، برغم كل هذه الأحزان.
 وهذا لايحدث إلا فى الأتوبيس.